
لم تكن الشمس قد أشرقت بعد عندما استيقظت حليمة أبكر على دوي انفجار هز منزلها في حيّها الهادئ بمدينة نيالا. تدافعت أصوات الطائرات في السماء، تليها صرخات الجيران وهدير الانهيارات. أسرعت إلى غرفة أطفالها، حيث كانت صغيرتها “سارة” تلتف حول شقيقتها “ليلى”، بينما كان رضيعها “آدم” يبكي مذعورًا في مهده. في تلك اللحظة، دخل زوجها أحمد مسرعًا، وعيناه تضجان بالخوف، لكنه لم يقل شيئًا. فقد كانت الكلمات عاجزة عن وصف ما يجري.
لم يمنحهم القصف فرصة للهرب. لم تمر سوى لحظات حتى تهاوت الجدران، وانهار كل شيء. لم تشعر حليمة إلا بظلام دامس يلفها، وصوت صفير يطنّ في أذنيها. حاولت أن تتحرك، أن تصرخ بأسماء أطفالها وزوجها، لكن الرد الوحيد كان الصمت. صمت الموت الذي خيم على المكان. عندما أفاقت أخيرًا، وجدت نفسها مدفونة تحت الأنقاض، وإلى جوارها امتدت يد صغيرة، يد سارة، جامدة بلا حراك.
حُفرت تلك اللحظة في روحها كجرح لن يندمل. انتشلها الجيران من بين الركام، لكنهم لم يستطيعوا انتشال قلبها من الحزن. في طرف الحي، كانت الجثث مرمية على الأرض، بين الركام والرماد. هناك، رأت ما تبقى من أسرتها: أحمد، ليلى، سارة، وحتى صغيرها الرضيع آدم، الذين غادروا الحياة في لحظة واحدة، تاركينها وحيدة في هذا العالم القاسي.
في اليوم التالي، حين جاء أحد الصحفيين ليوثق المأساة، وجد حليمة واقفة بين الأنقاض، تمسح دموعها بيدين مرتجفتين، لكنها لم تكن مهزومة. كان في عينيها بريق نار لا تنطفئ، بريق المرأة التي عرفت الحزن لكنها رفضت أن تستسلم له. سألها الصحفي بصوت مبحوح: “ماذا ستفعلين الآن؟”
رفعت رأسها، ونظرت إلى سماء نيالا، إلى تلك الطائرات التي لا تزال تحوم كغربان الموت، ثم نطقت بكلماتها التي ستظل محفورة في ذاكرة المدينة: “نموت ولكننا لن نستسلم، ولن ننكسر.”
لم تعد حليمة أبكر مجرد امرأة فقدت أسرتها، بل أصبحت رمزًا للصمود. في الأيام التي تلت، رأوها تمشي بين الناس، تحاول تضميد الجراح، تنقل الطعام إلى الجرحى، وتعيد بناء ما يمكن إنقاذه من الحياة وسط الدمار. لم يكن في قلبها سوى الإصرار، ولم تكن تحمل في عينيها سوى وعد واحد: لن يسقط اسمها في قائمة الضحايا، ولن تكون مجرد شاهد على المأساة، بل ستكون صوتها الذي لا يموت.