رأي

السودان بين شهرتين؛ كيف أحال إخوان السودان ألق ثورة ديسمبر المجيدة إلى رماد حارق

عباس احمد السخي

الحلقة الثانية: الانقلاب والحرب؛ من المجد الوطني إلى الحريق الشامل

مدخل:

لم تكن ثورة ديسمبر المجيدة إلا إعلانًا صريحًا لانتهاء زمن الإسلاميين البغيض في السودان، لذلك لم يستكن الإخوان المسلمون لهزيمتهم الشعبية، بل شرعوا فورًا في نسف مكتسبات الثورة، منابرهم الإعلامية صبّت جام غضبها على الحراك السلمي، تارة بوصفه “ثورة علمانيين”، وتارة أخرى بأنه “تحرك للمثليين”، وأخرى بأنه “مؤامرة دولية لتغريب المجتمع”. غير أن كل محاولاتهم باءت بالفشل أمام عنفوان الشارع، إلى أن لجأوا لخطة اغتيال الثورة من داخل مؤسسات الدولة، عبر تحالف خفي بين أذرعهم في الجيش والدولة العميقة، تُوّج بانقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم انفجر السودان بالكامل في حرب 15 أبريل 2023.

  1. خيانة داخل الجيش: كيف أُجهضت الثورة تحت لافتة الانضباط

حين بدأ الثوار، بقيادة حكومة حمدوك، في تفكيك بنية الفساد، وتصفية جيوب الإسلاميين داخل أجهزة الدولة، تحركت آلتهم العميقة. جنرالات خدموا النظام البائد ثلاثين عامًا، وكانوا قد تظاهروا بقبولهم للتغيير، انقلبوا عليه بتنسيق دقيق مع قادة التنظيم العالمي للإخوان. تمّت عملية الخيانة من داخل أروقة الجيش ذاته، حيث تحركت العناصر الأشد ولاء للبشير لتصفية الثورة ماديًا ومعنويًا. وهكذا تم تقويض الوثيقة الدستورية، وقُضي على المسار الانتقالي، فكانت الشرارة التي فجّرت واحدة من أبشع الحروب في تاريخ السودان.

  1. حرب 15 أبريل 2023: نارٌ من تحت رماد الثورة

بعد الانقلاب، سادت حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي. وعوضًا عن معالجة الأزمة، اندلعت المواجهة المسلحة في 15 أبريل 2023، بين الجيش والدعم السريع، لكنها كانت، في حقيقتها، نتاجًا مباشرًا لمحاولات الإخوان استعادة السلطة بأي ثمن. الحرب لم تكن مجرّد صراع بين جنرالات، بل كانت إعادة إنتاج لنهج التمكين القديم من خلال افتعال الفوضى، وتقسيم الشعب، وتفكيك الكيان الوطني.

كانت النتيجة كارثية،30 مليون نازح ولاجئ ومشرد داخل السودان وخارجه، انهيار أكثر من 85٪ من البنية التحتية في الخرطوم والمدن الكبرى، 15 مليون طالب فقدوا مقاعدهم الدراسية، ضياع رأسمال البلاد الاجتماعي، وتحول المجتمع إلى كتل من الكراهية والتمزق. وهكذا تحولت الثورة من نور في الأفق إلى لهيب يحرق الأخضر واليابس.

  1. عودة التنافر السياسي والجهوي: السودان يدخل إلى عصر الكراهية

من مكتسبات ثورة ديسمبر أنها أطلقت مشروعًا لبناء سودان يتسع للجميع، لكن الإسلاميين بعد انقلابهم أعادوا البلاد إلى المربع الأول، من خلال تفجير الخطاب العنصري مجددًا، واستدعاء الكراهية بين القبائل والجهات، وتغذية خطاب المناطقية والاصطفاف القبلي.

هكذا، انقلب شعار “كل البلد دارفور” إلى شعارات الإقصاء والكراهية. وعادت النعرات البائدة، وتم تعميق الفتن، ولم يعد هناك ما يجمع السودانيين تحت مظلة وطن واحد، وهو بالضبط ما أراده الإخوان، وعزفوا اليه بعناية من حيث تفكيك الوحدة التي صنعتها الثورة.

  1. النكسة الاقتصادية: من بوابة العالم إلى الحصار من جديد

بعد أن بدأ السودان يخرج من عزلته الاقتصادية بفضل الثورة، جاء الانقلاب ليعيده فورًا إلى الظلمة، حيث أُوقف إلغاء ديون السودان من قبل المجتمع الدولي، وانسحبت كبرى الشركات العالمية مثل “سيمنز” الألمانية و”جنرال إلكتريك” الأمريكية من مشروعاتها في السودان، وتوقفت خطوط التمويل وبرامج المساعدات الاقتصادية.

وبذلك عادت البلاد إلى حالة الإفلاس المعنوي والمادي التي كانت تعيشها تحت حكم البشير، بل وتجاوزتها إلى مستويات أشد بؤسًا بسبب آثار الحرب.

  1. عودة السودان إلى نادي الدول المنبوذة: الدولة الإرهابية من جديد

كان أكثر ما يُوجع أن السودان الذي كاد أن يُدمج في العالم الحديث، عاد مجددًا إلى نادي الدول الخمس المنبوذة. ظهرت في الإعلام الدولي صور تقشعر لها الأبدان، من شاكلة رؤوس تُقطع، وبطون تُبقر، مواطنون يُحرقون أحياءً، فظائع تُرتكب على أسس عرقية ومناطقية باسم حرب الكرامة.

صُدّر جيش الاخوان والبراءون للعالم صورة مرعبة لدولة انهارت فيها القيم والحدود، وعاد الخطاب الجهادي الظلامي إلى الواجهة. ولم يعد أحد يتحدث عن السودان كثورة عظيمة، بل ككابوس مرعب، يتحول بسرعة إلى نموذج جديد من الدولة الفاشلة الإرهابية.

خاتمة:

إن الفرق بين شهرة السودان في أعقاب ثورة ديسمبر، حين سطع نجم البلاد بين الأمم، وشهرته اليوم كدولة حرب وإبادة، هو الفرق ذاته بين مشروع وطني جامع، ومشروع استئصالي يتغذى على الكراهية. لقد أحال الإخوان ألق الثورة إلى رماد حارق، وأعادوا البلاد عقودًا إلى الوراء. لكن ذاكرة الشعوب لا تموت، وإن انكسر الحلم اليوم، فهو مؤجل لا ملغى، وسيظل شعار “حرية، سلام، وعدالة” حيًا في ضمير الأجيال، إلى أن يعود الوطن إلى أهله، ويُكنس منه من خانوا الثورة وخذلوا الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!