
بالطبع، ليس من الممكن البتة في هذا العصر الحديث، بكل حوامله المعرفية والحقوقية والتقنية، أن تنفرد فيه مجموعات صغيرة جدًا بالسلطات والمقدرات، وتتخذ القرار منفردة، وتحتكر كل آليات عنف الدولة، وترتكب الفظائع والفواحش وكل أشكال الموبقات، وتعمل على تصفية أطياف عريضة من المجتمعات والمواطنين عبر الإبادة والتطهير على أسس الهوية، بينما يظل العالم يتفرج على هذه المجازر والجرائم ضد الإنسانية، التي ظلت تُرتكب على مدى عقود من الزمان.
فالعالم، وإن تأخر في اتخاذ القرارات لصالح هذه الشعوب، إلا أنه لن يصمت حيال هذه الانتهاكات، لا سيما وأن المجتمع الدولي قد أصبح ناظمًا لحقوق الإنسان، وسيتم ملاحقة الجناة طال الزمن أو قصر. فالرئيس المخلوع وآخرون مطلوبون من قبل محكمة الجنايات الدولية بتهم الإبادة والتطهير العرقي في إقليم دارفور وأجزاء أخرى من السودان. وللأسف، لا زال ذات النظام يمارس الانتهاكات منذ انقلابه على حكومة ثورة ديسمبر الباذخة، وتأجيج حرب الخامس عشر من أبريل، التي تُعد من أسوأ الكوارث التي شهدها السودان، والتي أثارت الرأي العالمي، خاصة الانتهاكات المتعلقة بالتصفية الجسدية من ذبح المدنيين، وبقر بطونهم، وأكل أكبادهم وأحشائهم، وتصفية النساء والأطفال والعجزة، علاوة على القصف الجوي للأعيان المدنية والمناطق المأهولة بالسكان، واستخدام السلاح الكيماوي والأسلحة المحرّمة دوليًا من قبل الجيش، ما حدا بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض عقوبات عليه، بوصفه جيشًا مختطفًا لصالح جماعة الإسلام السياسي المرتبطة بالحركة الإسلامية العالمية وكل بؤر الإرهاب في العالم، خاصة إيران ودول محور الشر. والدولة المصرية بدورها ظلت توظف هذا الجيش الموروث عن المستعمِر لخدمة أهدافها السياسية، فمارست أبشع أنواع الاستغلال لموارد السودان، من خلال اتفاقيات مجحفة، ونهب لثروات الوطن، واغتصاب لأراضيه باحتلال حلايب وشلاتين وأبورماد، ووأد للهبات والثورات الشعبية، ليظل السودان أشبه بحديقة خلفية للدولة المصرية الجائرة.
إن الفساد والاستبداد الذي عاشته الشعوب السودانية سيُواجَه، ليس فقط برفضها للقبضة المركزية لتلك الأقليات المتغطرسة والفاقدة للرشد، بل ستواجهه بعنف مضاد، مرتبط بعقيدة وإيمان عميق بعدالة قضيتهم. وهذا ما اتّضح جليًا في حرب 15 أبريل، حيث أظهرت هذه الشعوب المقهورة جسارة منقطعة النظير في مواجهة أيديولوجيا الإرعاب والإرهاب، التي ظلت تعمل على غسل الأدمغة وتلويث العقول بشعارات غارقة في التضليل والأكاذيب، تارة باسم الوطن المفترى عليه، وتارة باسم الدين الذي شوّهوا ديباجته الوضّاءة، واعتبروا الأغلبية – التي تمثل السواد الأعظم – خونة وعملاء ومتمردين ومارقين، بل جرّدوهم حتى من انتمائهم للوطن. وهذا ما فعله كل المستبدين: هتلر، وستالين، ونميري، والبشير، وخامنئي، والبرهان؛ ففي كل هذه الحالات، يتحوّل هؤلاء المصابون بجنون العظمة إلى عباقرة وملهمين في نظر أتباعهم، ويُبرَّر كل جرمهم وانتهاكهم، بل يظن بعضهم أنه مفوّض من الإله، ويتوهّم البعض الآخر أنه محاط بإرادة شعبه المقهور. وللأسف، تلقى هذه الافتراءات قبولاً في عقول الدهماء الذين يعانون من متلازمة نقص المناعة المعرفية.
المضحك المبكي هو أن يُعتبر العنف الممارَس ضد الشعوب عملاً وطنيًا خالصًا! وإلا، فكيف نُفسّر الدعوات لاستمرار الحرب رغم فظائعها وانتهاكاتها ونتائجها الكارثية على المجتمعات؟ والمذهل حقًا هو ضعف الشعور في نفوس أولئك الذين يمطرون المدنيين المسالمين بالبراميل المتفجرة، دون أن يرفّ جفن الوحش الذي يفترس شعبه.
وجب علينا أن نعيد النظر في أجهزتنا المفاهيمية؛ فبناء دولة ذات قيم أخلاقية عادلة هو الأولوية في المشروع المدني في السودان، ولم يعد ازدراء واحتقار الشعوب من أجل الاستمرار في الحكم أمرًا ممكنًا، لأن الحقوق أصبحت مصانة وفق معايير وأعراف دولية. نأمل أن نعمل على ميلاد السودان في مهد حقوق الإنسان المستدامة، لنحقق الديمقراطية والتنمية المستدامتين.