
أكتب هذا الرد بكل التقدير الذي أحمله للزملاء الذين تفاعلوا مع مقالتي الأخيرة “انكسار الجناح الأيمن: في رثاء الحركة الإسلامية السودانية”. ولا أخفي امتناني لعادل القصاص على سخاء كلماته وعمق نقده، ولعبدالخالق الحسن على وضوح مقاربته وتشخيصه الحاد. فالنقاش لا يكتمل دون اختلاف منهجي يعكس تباينًا في المواقع الفكرية، لا خصومة في الغايات.
أعلم أن محاولتي للموازنة بين ما أسميه بـ”الوجدانية التاريخية” و”العقلانية السياسية” تثير حفيظة البعض، خصوصًا من يرون أن أي استدعاء للغة الدين، حتى لو جاءت ضمن تفكيكها، هو ضربٌ من التطبيع مع أصل الاستبداد. غير أنني لا أتبنى “أيديولوجيا وسطية” كما وصفها العزيز عادل القصاص، بل أنطلق من وعي تاريخي بالتجربة السودانية، حيث امتزجت الذاكرة الدينية بالمعاناة الاجتماعية، وتقاطع التصوف مع الحس العدلي، من دون أن يعني ذلك تسليمًا بمرجعية دينية فوقية أو شمولية.
نعم، العسكر لم يختطفوا الإسلاميين، بل العكس هو الأصح. وهذه حقيقة تاريخية وتصويب واجب. لكن مقالي ركّز على نقطة أخرى: أن المشروع الإسلاموي، حتى في شراسته، فقد هيمنته الرمزية لحظة أن انقلبت عليه أدواته، وتحوّل إلى طيفٍ مهزوم داخل ماكينة العنف التي أنشأها. فالرثاء الذي كتبته لم يكن نوستالجيا، بل تشريحًا لجثة أيديولوجية ماتت، لا لأنها تراجعت عن عنفها، بل لأنها لم تعد قادرة على إنتاج “معنى للسلطة” حتى في أعين جمهورها “المتدين”.
أمّا رد الأستاذ عبد الخالق، الذي يذكّرني دومًا بضرورة الحسم الفلسفي في توصيف الحركات الإسلاموية، فأقدّر حدته. نعم، الإسلاميون لا ينفصلون عن البنية الفقهية الكلاسيكية، ولم يعارضوا الجهاد في الجنوب أو قوانين النظام العام. لكن سؤالي لم يكن أخلاقيًا فقط، بل أنطولوجيًا: ما الذي جعل بعضهم يبدون أرفع من المشروع رغم انتمائهم إليه؟ أليست هذه هي المنطقة الرمادية التي تحتاج لفهم، لا لتبرير ولا لتجريم؟ أليست هذه المساحة ما يمكن أن نعيد عبرها تعريف معنى الانتماء السياسي/الديني في سياقنا السوداني.
أما النقاش حول “الدين كاختراع بشري” أو “فصل الدين عن الدولة”، فهو نقاش فلسفي مشروع، لكني أميل إلى ما يسميه بول ريكور بـ”تأويل الرموز”، أي إعادة فهم النصوص والتجارب الدينية ضمن أفق أخلاقي-زمني لا يحتقر المقدّس، ولا يؤلّه الماضي. فالدين، عندي، ليس برنامجًا سياسيًا بل فضاء وجداني أخلاقي، لا يجب إبعاده من المجال العام، بل إعادته إلى مقامه الطبيعي كأحد مصادر المعنى الإنساني.
ما قد يبدو “حنينًا عاطفيًا” حسب تعقيب الأديب إبراهيم برسي، هو في جوهره رثاء لفكرة انكسرت في مستوى الرمز، لا حنينًا إلى حقبة خذلت كل مقاصد الدين الحنيف. إنني لا أطرح تماهيًا مع المشروع الإسلاموي، بل أقدّم دعوة لتفكيكه نقديًا من الداخل، دون ازدراءٍ للتدين الشعبي أو قطيعة مع المخيلة الروحية المتجذرة في وعينا الجمعي. ولأنني لا أؤمن “بالفرز العقدي”، لا أقف في موقع من يوزّع شهادات الغفران أو الوطنية، بل أبحث عن خطاب سياسي-أخلاقي، لا يستثني أحدًا، لكنه لا يهادن الأيديولوجيات العمياء.
أتذكر أن عمّنا الراحل فاروق أبو عيسى، حضر لي ذات يوم خطبة جمعة تحدثتُ فيها عن الاشتراكية كتعبير قرآني عن التكافل الإنساني، فخرج يقول: “هذه أعظم خطبة جمعة سمعتها من قائد مسلم.” قلت له وقتها، ممازحًا وجادًا: لقد أخطأتم حين تركتم هذه المنابر لوعّاظ السلطان رغم ما لديكم من أهلية أخلاقية وفكرية. فالناس متدينون، نعم، لكن ذلك لا يجب أن يدفعنا لاحتقار تدينهم، بل لخلخلته من داخله، عبر أدوات العقل والمنطق والوجدان.
ختامًا، لم يكن مقالي “انكسار الجناح الأيمن: في رثاء الحركة الإسلامية السودانية” دعوةً للمصالحة مع الإسلاميين، بل دعوةٌ لتفكيك المشروع، بتفكيك رموزه، وتشريح خطابهم، دون السقوط في التعميم العاطفي أو الإدانة القبلية. أردتُ أن أقول إن المشروع الإسلاموي، في صورته القديمة، قد انكسر؛ لكننا – نحن – سنُهزم أيضًا، إن لم نفهم آلياته، ولم نواجه جمهوره بلغة عقلانية حارة، لا بوعظ مغاير أو عنف مضاد.
وقد كانت هذه الخلاصة مسار حديث شجي بيني وبين القائد عبدالعزيز الحلو في نيروبي بداية هذا الصيف، لم تمنعنا صوفيتنا — كونه تيجاني، وشخصي سماني — من التطرق لنظرية “النشوء والتطور” او التفكر في انتظام الأفلاك السماوية (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38]. بيد أن التحدي يمكن في كيفية نقل هذه الأريحية إلى الفضاء العمومي، نقلاً يساعد في تعميق الحوار الأخلاقي والفلسفي ويسهم في تطور المجتمعات أدبيًا وفكريًا.
لا أزعم امتلاك الحقيقة، بل أتمسك بالتأويل كوسيلة للنجاة من القطعية. دعوتي ليست لوسطية رخوة، بل لخطاب عقلاني – وجداني، يمكن أن يُقنع لا أن يُقصي، ويؤسس لفهم جديد لا للدولة الدينية، ولا للدولة العلمانية عديمة الروح، بل لدولة إنسانية تليق بتضحيات السودانيين، وتاريخهم الطويل في الكفاح، والرجاء، والتجاوز.