
في لحظة مشحونة بالتوترات الإقليمية، وجّه رئيس وزراء السلطة الانقلابية في بورتسودان، د. كامل إدريس، السفير السوداني في طهران بالعمل على الإجلاء الآمن للمواطنين السودانيين من إيران، التي تتعرض لهجمات جوية إسرائيلية مكثفة تنذر بانفجار إقليمي وشيك. خطوة تبدو في ظاهرها إنسانية ودبلوماسية، لكنها ما تلبث أن تكشف عن تناقض صارخ حين تُوضع في ميزان الواقع السوداني المنكوب.
فكيف لسلطة انقلابية تعجز عن حماية مواطنيها داخل السودان، أن تبادر إلى حمايتهم خارجه؟ وكيف لمن لا يملك سلطة فعلية على الفاشر ونيالا والنهود والعوينات، أن يُطمئن العالقين في طهران؟
منذ انقلاب أكتوبر 2021 وما تبعه من كوارث بلغت ذروتها باندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، تحوّلت الدولة السودانية إلى كيان هش، فاقد للسيطرة، يتعرض مجتمعه للقصف العشوائي، والنزوح الجماعي، والمجاعة، والأوبئة. ملايين يكافحون من أجل البقاء، بينما تواصل السلطة الانقلابية إصدار خطابات “سيادية” من بورتسودان لا تترك أثرًا ملموسًا على الأرض. بل إن د. كامل إدريس نفسه أقرّ في أول خطاب له بأن “هذه الحرب لن تتوقف”، معترفًا ضمنيًا بعجز حكومته عن إيقاف الكارثة.
في هذا السياق، يبدو الحديث عن الإجلاء من إيران تحركًا رمزيًا أكثر من كونه عملًا فعليًا. نعم، حماية المواطنين في الخارج مسؤولية لا تسقط حتى في أوقات الأزمات، لكن أولويات رئيس الوزراء يجب أن تُقاس بمعاناة من هم تحت القصف في أم درمان، أو المحاصرين في زالنجي، أو الجوعى في الأبيض. أليس من الأجدى إجلاء السودانيين من أتون الحرب في الداخل، وتأمين الغذاء والدواء لهم، قبل أي تحرّك دبلوماسي خارجي؟
المفارقة ليست في الفعل فحسب، بل في الرسالة التي تُوجَّه إلى المواطن: أن رئيس وزراء السلطة الانقلابية قد يتحرك، لكنه لا يملك الإرادة السياسية لمواجهة جذور الأزمة. وأن خطاب السيادة والكرامة الوطنية ما يزال يُوجَّه إلى الخارج أكثر من الداخل، وكأن السوداني العالق في مرمى القصف داخل الوطن لا يستحق ذات الاهتمام الذي يُمنح لنظيره في طهران.
هذه المفارقة تكشف عن أزمة أعمق: انفصال رئيس وزراء السلطة الانقلابية عن واقع الشعب، وغياب الرؤية التي تضع الإنسان السوداني في مركز الاهتمام، لا على هامش المعادلات الإقليمية والدبلوماسية.
نحن لا ندين مبدأ إجلاء السودانيين من إيران، بل ندين تجاهل من تبقّى داخل السودان. ندين المفارقة المؤلمة التي تجعل السوداني في طهران أولى بالاهتمام من نظيره في بحري أو سنار أو كوستي.
وفي الختام، لا يمكن لأي جهد خارجي أن يُعوّض غياب الإرادة السياسية الداخلية. فهل يدرك رئيس وزراء السلطة الانقلابية أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الوطن هو إنهاء الحرب، واستعادة مؤسسات الدولة، وجعل حماية الإنسان السوداني — في الداخل أولًا — أولوية قصوى لا تقبل التأجيل؟