رأي

الحكومة الموازية هي بداية المخرج

د. النور حمد

منذ أن فقد الكيزان وجيشهم غير الوطني وغير المهني المؤدلج، ومليشياتهم، السيطرة على المقار الحكومية في الخرطوم، وهروبهم إلى بورتسودان في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، متخذين منها. عاصمة بديلة، بدا لي بوضوح شديد، أن في الأمر رمزية أعني، رمزية تشير إلى أن تماسكهم المعنوي قد تضعضع وأن أوان ذهابهم قد أوشك. وقد يطول الوقت وقد يقصر، لذهابهم النهائي، وفقا لعوامل ومتغيرات كثيرة، لكنهم حتما ذاهبون في نهاية الأمر. فمثل هذا الشر المستطير مصيره الزوال. وكما قال ملك ملوك الحكمة في الشعر العربي ابو طيب المتنبي: «أين الأكاسرة الجبابرة الآلى، كنزوا الكنون، فما بقين، ولا بَقُوا / مِنْ كُلِّ من ضَاقَ الفضاء بجيشه حتى توى فحواهُ لَحْدٌ ضيق / فالموت آت والنفوش نفائش والمستعر بما لديه الأحمق”
لقد كان هروبهم إلى ذلك الطرف القصي من البلاد، الذي تفصل بينه وبين بقية البلاد سلسلة جبلية ليس فيها سوى معبر واحد يسمى العقبة، جرى نحته في قمة الجبل، أمرًا له مغزاه، فهم لم يختاروا بورتسودان عشوائيا. فلقد كان في وسعهم اختيار عطبرة، وهي تقع حيث الحاضنة الشعبية للكثير الجيش والكيزان، أو مدني التي لم يكونوا قد فقدوها بعد، أو كوستي. لكنهم اختاروا بورتسودان لأنهم كانوا يبحثون عن أكثر المواقع تحصينا من الناحية الجغرافية، التي يسهل الدفاع عنها، مثلما يسهل الهروب منها حين يصبح الهروب خيارًا لا مندوحة منه.
لقد استطال أمد الحرب الغادرة التي أشعلوها، والتي قدروا لنهايتها بضع ساعات ثم بضعة أيام، ثم بضعة أسابيع، ثم ما لبث أن أمتد نهايتها منفتحا على المجهول. وها هي الحرب توشك الآن أن تكمل عامها الثاني ولم يظهر في الأفق، ما يشير إلى نهايتها. وما أن بدأ الحديث عن نية بعض القوى المدنية والعسكرية تشكيل حكومة موازية الحكومة بورتسودان اللاشرعية، في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع هاجت الحية الإعلامية الكيزانية ذات الألف رأس *وآذرتها في ذلك بعض القوى السياسية المحسوبة على الثورة، التي لوت ذراعها جهات خارجية طفق هذان الحليفان اللذان يجمع بينهما حلف غامض غير مكتوب، يتباكيان على وحدة البلاد، مطلقين صراحا ومظهرين جزءا مخاتلاً من خطر التقسيم.*

يعلم جميع السودانيين ماذا فعل الكيزان حين قرروا فصل الجنوب فهم لم يستشيروا أحدا من القوى السياسية، ولم يأبهوا برأي أحد قط وإنما مسحوا وجوههم بفرق اللاحياء المتوفر لديهم، وقاموا بفصله والشمس في كبد السماء، والناس قيام ينظرون بل شرعوا في تزيين ذلك الفعل بأن قالوا: إن الاقتصاد سيصبح أفضل حالاً، بسبب توقف الصرف على الحرب التي أنهكت الخزينة، وإن «الشريعة المدغمسة ستذهب مع فصل الجنوب، لتأتي بعدها الشريعة الصريحة النظيفة. لكن، ما أن حدث الانفصال، فقدت البلاد ثلثي عائداتها من النفط ودخلت في ضائقة اقتصادية فجائية حادة ظلت تتفاقم حتى يومنا هذا. كما لم ير أحد منا تطبيقا للشريعة؛ سواء المدغمسة» التي أطلق عليها التسمية المخلوع عمر البشير، ولا غير «المد غمسة» التي وعدنا بها وهكذا هم الكيزان، أفاكون محترفون يلبسون لكل حالة لبوسها ، ويزينون الباطل حين يرون أن تزيينه يخدمهم ويُشينون الحق، حين يرون في إحقاقه تهديدًا لمصالحهم الدنيوية الفجة الضحلة فالحق والكيزان ظلا يقفان على الدوام على طرفي نقيض، وسيبقيان هكذا فئة الحالمين في الجسم المدني.
القوى المدنية التي أرزت الثورة قسمان: قسم ثوري حقيقي يريد للثورة أن تبلغ أهدافها التي من أجلها قامت، ومن أجلها استشهد شهداؤها وشهيداتها. وقسم آخر يرى أن من الذكاء والحصافة أن يقوم بتوزيع البيض بين سلة الثورة وسلة الكيزان. وهذا ليس جديدا، فما من ثورة من الثورات عبر التاريخ، إلا وكانت منقسمة الصف. ففي كل جسم عريض ساند أي ثورة من الثورات، هناك جزء منه له، بالضرورة، ارتباطات عضوية بالنظام المراد اقتلاعه هذا القسم ذو الموقف المائع يتحرك وعينه على المعسكرين المتصارعين، لأن ارتباطه الوثيق بمصالحه يجعله ينأى بنفسه من المغامرة. فهو يريد أن يكسب في الحالتين. لقد حكمنا الكيزان لستة وثلاثين عاما، حتى الآن والسبب هو أنهم يحددون هدفهم بوضوح، كما قال عبد الوهاب الأفندي ويتجهون إليه مباشرة، ولا يلتفتون إلى ما يقوله الناس عنهم. بل ويسحقون من يقف في طريقهم، بلا رحمة. لم يكترث الكيزان طيلة هذه العقود بالشعب السوداني؛ مات أو عاش أو ماذا يريد ولا بالقوى الإقليمية والدولية وماذا ترى أو تريد . ورغم ذلك، بقوا في السلطة على الأقل، في كثير من أجزاء السودان، حتى الآن. أما القوى السياسية التي ظلت تعارضهم فقد كانت بائسة الأداء بسبب انغماسها في تكبيل نفسها ، برسم خطوط حمراء ظلت تحد من مدى فاعليتها. لكن، إذا نظرنا إلى الكيزان واسترجعنا حديثهم عن مثلث حمدي، ثم قيامهم عن قصد بفصل الجنوب، ثم الترويج عالي الصوت هذه الأيام، لما تسمى «دولة النهر والبحر»، لاتضح لنا الفرق بينهم وبين غيرهم. فالآن، فقد شرع الكيزان، بالفعل، في تقسيم البلاد بطباعة عملة لجزء منها، وإجراء امتحانات الشهادة في ست ولايات فقط، ومنع وصول الإغاثة إلى المناطق التي لا يسيطرون عليها. وكذلك منع أهل تلك المناطق من استخراج الوثائق الثبوتية. مثل هذا الصلف وهذه الرعونة لا يجدي معها سوى قلب الطاولة عليها ، مرَّةً واحدة. وهذا ما شرعت فيه بعض القوى المدنية والعسكرية، التي تتجه الآن لإعلان حكومتها الموازية.
من ينادون بوقف الحرب بناءً على حل متفاوض عليه مع الكيزان، يكفل للثورة تحقيق كامل أهدافها، كما أرادها الثوار، إنما يحلمون، لا أكثر. فالكيزان لن يقبلوا إلا حلا يبقيهم في السلطة. ولربما يقبلون في البداية بوجود جزئي في السلطة، لكنهم لن يفعلوا ذلك إلا ولديهم خطة جاهزة لكي تصبح السلطة كاملة في أيديهم، وحدهم، ولو بعد حين فهم سوف ينقلبون على الاتفاق مثلما فعلوا مع الاتفاق المدني العسكري الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية الكيزان لا يتسولون الحلول لدى المجتمعين الإقليمي والدولي، مثلما تفعل ذلك القوى السياسية المدنية، وإنما يعملون على فرض إرادتهم على الجميع وابتزازهم بمختلف الأساليب حتى يصلوا إلى ما يريدون. ومن المدهش حقا أن تنسيقية تقدم التي لم تدع قط لأي جولة من جولات المفاوضات التي جرت حتى الآن لا يزال قطاع منها يتسول وقف الحرب راجيًا أن يعود إليه المسار المدني الديمقراطي من القوى الدولية والإقليمية، على طبق من الفضة.
خلاصة القول، إعلان الحكومة الموازية في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع هو الفرصة الوحيدة المتبقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية. وهو الذي سيعجل بإيقاف الحرب وفرض خيار السلام الحراك المدني الذي لا شوكة له، ولا أسنان الذي ينتظر أن ينتزع الحقوق من قوة شرسة وديناميكية لا تبالي بشيء، كقوة الكيزان، عن طريق الهتاف والمناشدة، حراك حالم. فهو بهذا الوضع لا يعدوا كونه حراكًا هامشيًا وظاهرة صوتية غير مؤثرة، لا يأبه بها أحد. فليوحد من يقفون في صف الثورة بندقيتهم وقواهم السياسية في بنية واحدة متماسكة متعاضدة، ثم يعلنوا حكومتهم على رؤوس الأشهاد، بلا مواربة وسيرون، حينها، كيف سيمنحهم المجتمعان الدولي والإقليمي وزنا لم يسبق له أن منحهم إياه من ينتظر من الكيزان أن يكونوا عقلاء، أو متعاطفين مع الناس في عذاباتهم، وبلواهم، وتشردهم وجوعهم، أو مبالين بدمار البلاد وهلاك العباد هو شخص غير عاقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!