
من يعرفون عبد الفتاح البرهان عن قرب يدركون جيدًا أنه لا يهتم كثيرًا بمن يفسد أو يسرق أو حتى بمن يعبث بمصير البلاد وأهلها. كل ما يشغل باله هو الحفاظ على موقعه على رأس السلطة، مهما كان الثمن، ومهما كان حجم الخراب الذي يخلفه وراءه. فلا يهمه إن انقسمت البلاد أو تمزقت، طالما أنه مستمر في إدارة “حكومة الأمر الواقع” من مقره في بورتسودان.
عندما استعان البرهان في أكتوبر 2021 بالأوباش وقطاع الطرق من بعض المجموعات البجاوية المتفلتة لإغلاق الموانئ والطرق الحيوية، في إطار انقلابه على الحكومة المدنية الانتقالية، لم يخطر بباله أن هذا السلاح سيرتد عليه يومًا. فالرجل، الذي لا يرى أبعد من أطماعه الشخصية، ظن أن هؤلاء الأوباش سيفعلون ما يُطلب منهم ثم يعودون أدراجهم ليشكروه على “كرمه” ويتمنون له عمرًا مديدًا وحكمًا سعيدًا! لكنه نسي أن من تعود على غياب الدولة والقانون لن يتوقف عند حد، ولن يتردد في استخدام السلاح ذاته لتحقيق مصالحه، ولو على حساب مشغله الأول.
يتذكر السودانيون كيف هندس المكوّن العسكري بمجلس السيادة، بالتعاون مع أجهزة الأمن والمخابرات، مؤامرة إغلاق الموانئ والطرق لإقصاء المكوّن المدني والانفراد بالسلطة. يومها، ظن العسكر أن هؤلاء العوام، الذين تم استغلالهم بخبث، سيعودون إلى رشدهم بمجرد قبضهم المعلوم بإشارة من زعمائهم القبليين. لكن العجيب أن السحر انقلب على السحرة، وأصبح هؤلاء يغلقون الموانئ والطرق لأتفه الأسباب بعد أن أدركوا أن اللصوصية هي طابع الحكم؛ فأصبحت البلطجة والإغلاق أسلوب عيشهم ومعيشتهم. وصاروا يغلقون الموانئ لمجرد تعثر شاة في جبال سنكات أو تلال هيا، وليس هناك لص أفضل من لص!
ما حدث مؤخرًا في عاصمة دولة البرهان، بورتسودان، يكاد يكون أشبه بفصل من مسرحية عبثية لا تصلح حتى لسلطنات القرون الوسطى. ففي غضون 48 ساعة فقط الأسبوع الماضي، شهد السودانيون استعراضًا هزليًا تراجيديًا كان بطله الخلاف حول قرار إداري أصدره مدير عام هيئة الموانئ بنقل مدير ميناء سواكن إلى إدارة أخرى. لكن مدير ميناء سواكن رفض القرار، وحشد أنصاره على أساس قبلي، وأغلق الميناء احتجاجًا.
وهكذا، بفضل سياسات البرهان الفوضوية، صار “التتريس” عادة يومية يمارسها الجميع. ولم يتوقف الأمر هنا، إذ اضطر وزير النقل لإلغاء قرار النقل، ولإرضاء المتجمهرين قام بإعفاء مدير هيئة الموانئ نفسه. فانقلب المشهد واستنجد المدير المقال بكتلته القبلية أيضًا، فأغلقوا بدورهم الميناء! وأمام هذا المشهد السريالي، تراجع الوزير عن قراراته، وتراجع الجميع خطوة إلى الخلف بعد تدخل زعماء العشائر، ليعود الجميع للعمل بالميناء وكأن شيئًا لم يكن.
هذا العرض المسرحي العبثي اختُتم بجمهور يحمل نعش الخدمة المدنية إلى مثواها الأخير، وهي بين أيدي زعماء القبائل يتلاعبون بها كيفما شاءوا، وسط دعوات بالرحمة والمغفرة.
إنها كوابيس دولة الحلمان!