رأي

هل انتهت الحرب في الخرطوم؟

رجاء بشير محمد احمد

نصيحة :لا تقرأ هذا المقال
في صفحات التاريخ العسكري للبشر ، لطالما كانت بعض أعظم الانتصارات أو التحولات العسكرية نابعة من قرارات انسحاب ظاهري، خُطط لها كتمهيد لتحولات استراتيجية كاسحة. هكذا فعل القائد القرطاجي هانيبال حين استدرج الجيوش الرومانية إلى معركة كاناي عام 216 قبل الميلاد، فحاصرهم وأبادهم رغم تفوقهم العددي. وهكذا انسحب الجنرال الروسي كوتوزوف من موسكو في وجه نابليون عام 1812، لا خوفًا، بل ليستنزف جيشه في عمق الشتاء الروسي القاسي حتى انهار تمامًا.
في الصين، اعتمد ماو تسي تونغ على تكتيك “الحرب الشعبية المطوّلة”، فانسحب من المدن ليستدرج قوات الكومنتانغ إلى الأرياف، حيث التفوق لم يكن في السلاح، بل في الأرض والناس والزمن. وفي حرب فيتنام، تحوّل غياب التفوق الجوي للفيت كونغ إلى ميزة عبر أنفاق الأرض، وتفتيت خطوط الإمداد الأمريكية بضربات غير متماثلة.
وفي العصر الحديث، شهدنا في حرب الشيشان الثانية عام 1999، كيف انسحبت المقاومة الشيشانية من غروزني لتفتح جبهات أوسع في الجبال والريف، ثم تعود بعد سنوات بأساليب تكتيكية أكثر تعقيدًا، أربكت الروس رغم تفوقهم الجوي والعددي.
وما يجري اليوم في السودان لا يخرج عن هذا السياق. فالدعم السريع، وقد بدا للبعض أنه يتراجع، كان في الواقع يُعيد تعريف ساحة المعركة وفق منطقٍ عسكريٍ لا يقل دهاءً عمّا شهدته كتب التاريخ: إنه يُبدّل الأرض، ويغيّر العدو، ويحوّل الفوضى إلى فرصة، والهزيمة إلى فخ.
معركة الخرطوم لم تنتهِ بعد
في تاريخ الحروب، لا تُقاس المعارك بمواقع السيطرة المؤقتة ولا بالانسحابات الظاهرة. كثيرًا ما تكون التراجعات في ظاهرها هزائم، لكنها في جوهرها مقدمات لتحولات استراتيجية كبرى. هذه هي القاعدة التي تُفسّر سلوك قوات الدعم السريع في معركة الخرطوم، والتي، رغم كل ما جرى، لم تنتهِ بعد – لا عسكريًا، ولا سياسيًا، ولا حتى في الوعي الجمعي للمواطن السوداني.
فما يجري اليوم في السودان ليس مجرد نزاع على السلطة، بل صراع على هوية الدولة، وطبيعة جيشها، ومصير شعبها. وبينما انشغل خصوم الدعم السريع بتعداد المكاسب الميدانية، كان الأخير يُعيد تعريف ساحة المعركة، ويبني، في صمتٍ مدروس، لمواجهة حاسمة لم تبدأ بعد.
الاشتباك الأول: الدعم السريع في قلب عاصفة متعددة الأبعاد
منذ اندلاع القتال في 15 أبريل 2023، واجه الدعم السريع واقعًا قتاليًا غير تقليدي. فالمواجهة لم تكن مع الجيش السوداني وحده، بل مع تحالف واسع ومعقد من الأعداء، قلّ أن يوجد له نظير في النزاعات الحديثة:
• القوات المسلحة السودانية: بما تملكه من سلاح طيران، ووحدات مدرعة، ومنظومات مدفعية، واحتياطات لوجستية مدعومة من دول الجوار.
• كتائب الإسلاميين: والتي أُعيد إحياؤها داخل الجيش وخارجه، لتعمل كقوة عقائدية متطرفة ذات ولاء سياسي أكثر من كونها وحدة نظامية.
• المليشيات القبلية والمستنفرة في الوسط والشرق، والمدفوعة بخطاب التحريض الطائفي والمناطقي.
• جهاز الأمن والمخابرات: الذي يتولى الحرب المعلوماتية والسيبرانية والتنسيق الاستخباراتي.
• القوات المشتركة من الحركات المسلحة التي وقّعت اتفاق جوبا، والتي باتت تقاتل كمرتزقة في خدمة مصالح النظام العسكري.
• مرتزقة أجانب من التغراي، وعناصر مدعومة من موسكو عبر فاغنر، ومليشيات من دول الجوار.
• دعم إقليمي خفي من دول مثل مصر، والجزائر، وتركيا، وإيران.
إن هذه الكتلة المعادية تمثل نموذجًا متقدماً لـ”التحالفات القَسْرية”، التي لا يجمع بينها مشروع موحّد بقدر ما يجمعها الخوف من الدعم السريع، باعتباره قوة متحركة، وغير تقليدية، ومرنة، وتُهدد بنية النظام الذي يريد العودة تحت عباءة الإسلاميين.
معضلة الجو: غياب الغطاء الجوي وتحدي التوازن الناري
ما من شك أن افتقار الدعم السريع لسلاح الطيران منذ الأيام الأولى للمعركة كان بمثابة الخلل الهيكلي الأخطر في ميزان القوة. فمن دون غطاء جوي، تصبح تحركات القوات مكشوفة، وتصبح خطوط الإمداد عرضة للقصف، وتفقد العمليات عمقها الناري والاستباقي.
لكن في مواجهة هذا الواقع، لم تختر القيادة العسكرية للدعم السريع الانتحار في مواجهات مفتوحة، بل اختارت ما يُعرف في النظريات الحربية بـ”الاستجابة غير المتماثلة” (Asymmetric Counter Strategy). وجوهر هذه الاستراتيجية يتمثل في تفادي التفوق الجوي لا بمواجهته مباشرة، بل بنزع قيمته التكتيكية عبر تغيير طبيعة الميدان نفسه.
الانسحاب من الخرطوم والجزيرة: إعادة التموضع لا الانكسار
عندما انسحب الدعم السريع من معظم مناطق الخرطوم، ومن سنار والجزيرة، كان خصومه يظنون أن المعركة قد انتهت. لكن ذلك لم يكن سوى حركة تمويه عملياتية، غرضها سحب العدو إلى بيئة قتالية جديدة، يتحول فيها من المهاجِم إلى المدافِع، ومن الماسك بالأرض إلى المشتت على أطرافها.
جاء هذا القرار بعد دراسة لعدد من المحددات:
• تكاليف السيطرة على المدن الكبرى تحت القصف الجوي تفوق فائدتها العسكرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!