
الغرور، كما يعرفه اللاهوت الأخلاقي، ليس مجرد خطيئة شخصية، بل كارثة إذا أصابت الحاكم. وحين يقترن الغرور بالدين، يتحول إلى كارثة مركبة. نظامان دينيان من عالمين مختلفين: إيران الشيعية والسودان السني، انتهيا إلى المصير ذاته، لا لأن عقيدتهما خاطئة بالضرورة، بل لأن غرورهما السياسي أعمى بصيرتهما. تصورا أن بوسعهما إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية من حولهما، وتصدير مشروعهما كرسالة مقدسة، بينما شعوبهما تختنق تحت القمع والجوع والتمييز. هنا لا نحاكم العقيدة، بل نحاكم من استغلوها ليبنوا بها سجونهم، ويجعلوا من الدين عباءة للسلطة. والتاريخ، كما كتبته هانا أرندت، لا يرحم من (يحمل راية الحق ليفرض بها الاستبداد).
إيران… المشروع الذي بدأ من قم وانتهى بعزلة طهران
منذ 1979، حلمت إيران بأن تكون قائدة العالم الإسلامي. رفعت شعار (تصدير الثورة)، ودعمت الحركات المسلحة في لبنان والعراق واليمن وسوريا. اعتبرت نفسها صوت المستضعفين، ومركز القرار الشيعي العالمي. لكن في الداخل، كانت الصورة مختلفة: البطالة، القمع، اقتصاد ينهار تحت العقوبات، وانتفاضات شعبية من أجل الحجاب، والخبز، والحرية. حتى الطبقات الدينية بدأت تتململ. صارت طهران مدينة تعاني من عزلة مزدوجة: عزلة من الخارج بسبب سياساتها، وعزلة من الداخل بسبب شعبها. الغرور الإيراني تمثل في ظن النخبة الحاكمة أن نفوذهم الخارجي يمكن أن يعوض هشاشتهم الداخلية، وأن حزب الله في لبنان يمكن أن يغطي على فقر مدينة قم، وأن الحشد الشعبي في العراق أغلى من جياع طهران.
السودان في عهد الإسلامويين… من الحلم الأممي إلى الفشل المحلي
حين وصل الإسلامويون للحكم في السودان، لم يكتفوا بالسيطرة على الدولة، بل سعوا لتصدير نموذجهم للعالم. فتحوا الخرطوم لاستقبال بن لادن، كارلوس، والجماعات الإسلامية المتطرفة من كل مكان. أقاموا مؤتمرا أمميا للحركات الإسلامية، وتوهموا أن الخرطوم ستصبح مركز القرار للعالم السني. لكن الثمن كان فادحا. بدأت الحرب في الجنوب، ثم التطهير العرقي في دارفور، والانهيار الاقتصادي، والفساد بلا حدود. في مقابل كل دولار صرف على دعم جماعة خارج السودان، جاع مئات السودانيين. وفي مقابل كل سلاح أرسل لثوار في بلد آخر، ماتت قرية في دارفور أو جبال النوبة. المشروع الحضاري تحول إلى كارثة وطنية. غرور القادة جعلهم يظنون أن الله معهم… حتى وهم يوارون خصومهم أحياء تحت التراب.
من التدخل في شؤون الجيران إلى العزلة في ساعة الفزع
كانوا يتدخلون في شؤون الجيران دون تردد. إيران دعمت الحوثيين ضد السعودية، والسودان دعم حركات مسلحة في تشاد، يوغندا، إريتريا، وحتى الصومال. اعتقدوا أن هذا نفوذ استراتيجي، وأنه يمنحهم الشرعية. لكن حين وقعت الكارثة داخل أوطانهم، لم يسعفهم أحد. إيران تضرب داخل أراضيها، وتغتال قياداتها، وحلفاؤها لا يحركون ساكنا. والسودان دخل حربا أهلية كاسحة، ولم تمد أي من تلك الدول التي دعمتها الخرطوم سابقا يد العون. من يتدخل في شؤون جيرانه، غالبا ما يفقد سندهم في ساعة الفزع. من يزرع الخصومة، لا يحصد النجدة.
الحرب في إيران والسودان… تطابق في جوهر الأزمة
رغم اختلاف الشكل، إلا أن الحربين في إيران والسودان متشابهتان في الجوهر: في إيران، الشعب انتفض ضد قمع ديني مغلف بالشعارات. في السودان، الشعب ثار على قهر طويل تلبس ثوب الإسلام. في إيران، يتصارع الحرس الثوري مع المجتمع المدني، وفي السودان يتصارع الجيش مع قوات صنيعة النظام القديم. في البلدين، النساء في مقدمة المواجهة، والشباب هم الأمل والخطر في آن معا. والعالم ينظر من بعيد، يتظاهر بالحياد، بينما الأرض تشتعل.
(أسوأ لحظة تمر بها سلطة استبدادية هي حين تبدأ بالانفتاح، لأن الناس لا ينسون ما فعلته بهم حين كانت مغلقة)
– ألكسيس توكفيل
المارد الذي داس على الناس… قبل أن يسقط
لم يكن سقوط المارد ضربة مفاجئة من الخارج، بل كانت متوالية من الخراب تبدأ من الداخل. الغرور الذي أعمى قادة طهران والخرطوم لم يكتف بتأليه السلطة، بل جر الشعوب إلى قلب تسونامي من الرعب والدمار والتشريد. آلاف خرجوا يهتفون للثورة أو الجهاد، دون أن يدركوا أنهم يطعمون ماردا سيبتلعهم لاحقا. باسم الله، جرفت القرى، وامتلأت السجون، وخرجت قوافل النزوح من الأهواز ودارفور، تبحث عن الحياة في خرائط لا تعترف بهم. المغيبون الذين صفقوا للمشروع، صاروا اليوم جثثا تحت الركام، أو عالقين بين نار الحرب وجحيم اللجوء. وفي كل الأحوال، احترق كثير منهم بسوائل البراميل الحارقة؛ لا فرق حقيقي بين ضحاياها إلا موقعهم الجغرافي.
الغرور لا يصنع دولة… بل يحفر قبرا لها
الغرور السياسي قتل المشروع الإسلاموي قبل أن تقتله الدبابات أو الانتفاضات. ظنوا أن بإمكانهم بناء دولة على الخوف، وتصدير رسالة عبر الرصاص، ومقاومة التاريخ عبر حذف الذاكرة الجماعية. لكن الشعوب لا تقهر إلى الأبد. عندما سقط القناع، لم يجدوا من يدافع عنهم. لا من الجيران، ولا من الشعوب، ولا من السماء. لقد صاروا مثل قوم عاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فأنكرهم أهل الأرض، ونبذهم حتى التاريخ.
صدروا الفوضى… فعادت إليهم كقضاء غاشم
ما لم يدركه إسلامويو إيران والسودان، أن الفوضى التي زرعوها في محيطهم كانت كالنار، لا تعرف الوفاء لمن أشعلها. حين دعمت طهران الحروب بالوكالة، تسللت نيرانها إلى الداخل الإيراني. وحين تلاعبت الخرطوم بخريطة الجيران، تفجرت الحدود، وتحولت مدن السودان نفسها إلى جبهات. لقد صدروا الفوضى، فأتتهم في عقر غرورهم. لم تبق الفتنة في أطرافها، بل استدارت وعادت لتنتقم من صانعيها.
المارد كان من ورق
ليست المشكلة في الإسلام، بل في من يدعون احتكاره. ليست المأساة في العقيدة، بل في تحويلها إلى أداة سلطوية. من طهران إلى الخرطوم، غرور الحكام جعلهم يرون أنفسهم ظل الله في الأرض، ويجعلون من معارضيهم أعداء الله، ويحولون شعوبهم إلى رهائن باسم الدين. لكن كل ما بنوه، مهما بدا متماسكا، كان هشا. كان ماردهم مزيفا… مارد من ورق.
manal002002@gmail.com