رأي

كامل إدريس والمناهج المدرسية، عندما يُكلَّف أتباع الحرب بتعليم دروس السلام

خالد كودي

كوميديا سوداء في زمن الرماد:

في واحدة من أكثر لحظات التاريخ السوداني عبثيةً وتراجيديةً في آن، خرج علينا كامل إدريس، دمية العسكر المستعارة من متحف شمع الشخصيات المنسية، ليعلن بتوجيه رسمي من حكومة الفريق البرهان في بورتسودان ضرورة إدراج “دروس وعِبَر الحرب” في المناهج الدراسية. لا، ليست هذه مزحة سوداء من زمن الاستعمار، ولا حلقة محذوفة من برنامج “على كيفك يا جنرال”، بل هي واقع حيّ يُفرض على أطفال وشباب السودان من نظام ديكتاتوري يعيد إنتاج نفسه بأقنعة مدنية رثة، مستأنفًا أسلوب “التربوي العسكري” الذي لا يرى في التعليم سوى أداة لضبط المجتمع لا لتحريره، وسيلة لإعادة ترويض الخيال الجمعي لا تفكيكه، وأداة لحشد الأجساد لا بناء الوعي.

دعونا نأخذ هذا الإعلان على محمل الجد للحظة، لا بوصفه زلّة لسان من رجل يعيش في منفى أخلاقي طويل، بل باعتباره مؤشراً دقيقاً على رؤية نظام لا يعرف من التعليم إلا وسائله في الحشد والتعبئة، ولا من الحرب إلا كونها أداة حكم وشرط بقاء. هذه ليست بداية إصلاح، بل استكمال لمأساة تُكتب الآن بلغة منمقة، على دفاتر طلاب جدد يُراد لهم أن يحفظوا دروس الجلادين وهم صاغرون.

حكومة الحرب… تصوغ رواية الحرب:

ينبغي ألا نخدع أنفسنا: الحرب، في عرف الحكومة العسكرية في بورتسودان، ليست كارثة وطنية، بل مشروع بقاء سياسي كامل. رؤية حكومة بورتسودان للحرب ليست تأملًا تاريخيًا أو درسًا أخلاقيًا، بل هي جوهر بنائها وسر بقائها، ثقافتها اليومية ووسيلتها الوحيدة للهيمنة. كامل إدريس، الآتي من ظلال المؤسسات الدولية، لم يُخفِ هذه الرؤية في خطابه الأول بعد تعيينه دمية في مسرحية بورتسودان العسكرية؛ بل أعلنها بكل فجاجة حين وعد بـ “القضاء على التمرد عسكرياً”، في انحياز واضح إلى رؤية عسكرية محضة لا ترى في الحرب أزمة وطنية قابلة للمعالجة السياسية أو الإنسانية، بل أداة حكم مشروعة و”بطولية” لحماية الدولة كما يتصورها العسكر: دولة المركز القاهر والامتيازات التاريخية.

دعوة كامل إدريس لإدراج “دروس وعبر الحرب” في المناهج لا تنبع من موقع نقد ذاتي، ولا من حس تاريخي ذكي وصادق، بل من سعي لتأبيد رواية النظام الذي عينه نفسه، وتجميل الجرائم، وتقديم الحرب بوصفها ضرورة وطنية لا كأداة تدمير شامل. أي دروس يمكن أن تُكتب بأيدٍ لا تزال ملطخة بمداد الدم وبقايا الرصاص؟ كيف لمن شارك أو برّر أو بارك مشروع الإبادة والتجويع والتهجير أن يقدّم لنا اليوم مادة تعليمية عن السلام أو الاستشفاء الوطني؟

إن كامل إدريس، ومن خلفه الحكومة التي عيّنته، يتحركون ضمن مظلة “الوثيقة الدستورية المعدلة” التي لم تُصغَ لضمان انتقال مدني أو عدالة انتقالية، بل جاءت خصيصًا لضمان بقاء هيمنة العسكر وتعطيل أي أفق ديمقراطي، ولشرعنة قمع كل من يجرؤ على الحلم بسودان جديد. هذه الوثيقة ليست إلا إعادة إخراج فاشلة للمشروع الحضاري لعمر البشير، ذلك المشروع الذي ربط التعليم بالتعبئة الجهادية، وجعل من المدارس معسكرات أيديولوجية خرّجت أجيالًا تمتهن الكراهية وتقدّس العنف، وتربّت على إنكار الآخر، وتجريم التنوع، والتشكيك في الوطنية خارج مركز القرار.

في هذا السياق، لا يمكن فصل خطاب كامل إدريس عن طبيعة النظام الذي نصّبه، فهو لا ينطق إلا بما يعيد إنتاج نفس الأساطير التي مزّقت السودان، ويريد أن يُلقِّن الأجيال القادمة نسخته الرسمية من الحرب، لا بوصفها مأساة يجب تجاوزها، بل كدرس وطني واجب التقديس، يتماهى تمامًا مع خطابات الاستعلاء والإنكار والجهوية الممنهجة التي لطالما حكمت المركز.

من مناهج الإنقاذ إلى مناهج “بقايا الإنقاذ”… إعادة إنتاج الجريمة بقفاز تربوي:

كامل إدريس لا يظهر في المشهد السوداني كبديل مدني أو عقل إصلاحي، بل كقناع مكرّر ومرقّع لنظام عسكري يسعى لإعادة إنتاج ما أسقطته ثورة ديسمبر، ويعيد بعث المشروع الحضاري لعمر البشير تحت مسمى “المرحلة الانتقالية”. فقد جعل ذلك المشروع من التعليم أداة لتجنيد الوعي، ومن المناهج وسيلة لغرس الولاء الأيديولوجي، وتكريس الاستعلاء الديني والعرقي. في تلك الحقبة، كانت المدارس تُدرّس الجهل والكراهية باعتبارها فضيلة، والقتال ضد أبناء الوطن المختلفين جغرافيًا وثقافيًا بوصفه “جهادًا”…هوس ديني!

من ينسى مناهج “الدفاع الشعبي” التي أُلّفت بمداد الدم؟ من ينسى التربية الجهادية التي لقّنت الأطفال في الخرطوم وبورتسودان ومدني وعطبرة وكادقلي والدمازين… وأم جرس أناشيد الحرب، وزرعت في أذهانهم صورة “العدو الداخلي” المتجسد في سكان الهامش، من دارفور إلى النيل الأزرق إلى جبال النوبة؟ آنذاك، لم يكن الوطن للجميع، بل لفئة مختارة “تباركها السماء”، ومُنحت مهمة “تقويم” بقية الشعب بالنار والسلاح. واليوم، تعود هذه الرؤية بثوب أكثر أناقة، تتحدث عن “الوحدة الوطنية” و”نبذ العنصرية” بلسان الدولة نفسها التي تواصل شن الحروب، وتجويع الهامش، وتجريم الأصوات الحرة، وملاحقة الناشطين، وسرقة المساعدات، وتفتيش جثث اللاجئين بحثًا عن “خيانة. ”

إن حكومة الفريق البرهان التي نصّبت كامل إدريس، ليست إلا الامتداد المؤسساتي لنفس العقل الذي أدار مشروع “التمكين” وكتائب “الظلال” و”الطلاب المجاهدين”. ومجرد التفكير في أن هؤلاء سيكتبون مناهج “السلام” هو مفارقة بحجم المأساة، لأنهم لا يمتلكون لا الشرعية الأخلاقية ولا التأهيل الفكري للحديث عن الاستشفاء الوطني. فكما قال نلسون مانديلا في أعقاب تفكيك نظام الفصل العنصري:

“لا يمكن لمن صنع الأزمة أن يقود التعافي منها، فالمصالحة لا تصنعها البنادق بل العقول التي تجرأت على النقد”

ومن التجربة الرواندية، شدّد الرئيس بول كاغامي على أن “مناهج ما بعد الحرب يجب أن تُكتب بأقلام من عرفوا حجم الكارثة، لا من هندسوها”، فتمت تنقية المناهج من كل مضمون إثني تحريضي، واعتماد سردية وطنية جامعة تُبنى على المسؤولية الجماعية والاعتراف لا الإنكار.

أما في ألمانيا، فقد جاء في تقرير إصلاح التعليم عام 1949 أن “المعلم الذي كان يعلّم في ظل النازية لا يجب أن يُكلّف بإعداد الجيل الديمقراطي الجديد”، وهو درس لا يزال صالحًا تمامًا للسودان، حيث يُعاد توظيف رجال الأنظمة السابقة لصياغة مستقبل شعب دمّروه.

كامل إدريس، بهذا المعنى، ليس مجرد شخص، بل هو رمز لانعدام الخيال الأخلاقي لدى السلطة، ومؤشر على مدى الإفلاس الذي يدفع نظامًا عسكريًا للاستعانة بـ”واجهة مدنية” كي يبرر مشروعه الاستبدادي باسم مدنية السلطة. وحين يصوغ خطابًا عن “نبذ الجهوية والعنصرية” فيما تقاد الحروب اليوم بأسماء كتائب “البراء بن مالك” و”البنيان المرصوص”، فإننا لا نكون أمام إصلاح، بل أمام عملية تمويه سياسية لتمرير مناهج جديدة بنفس الروح القديمة: روح العنف المقدّس والاستعلاء المسلّح.

وكما قال الفيلسوف جون ديوي:

“إذا كانت المدرسة مرآة المجتمع، فإن أول ما يجب تغييره هو صورة المجتمع التي تنعكس داخلها”

ولأن ما يُعرض على تلاميذ السودان اليوم هو انعكاس لسلطة مريضة بالحرب والهيمنة، فلا ننتظر من هذه المناهج إلا تكريسًا لجراح الماضي، لا تضميدها.

عن التعليم بعد الحروب: العلم لا يُؤخذ من الجنرالات:

بناء علي الباحث التربوي

Tony Gallagher

إن “التعليم في سياق ما بعد النزاعات لا يمكن أن يُبنى من قبل أولئك الذين خاضوا الحرب، بل من قبل أولئك الذين عرفوا فظاعتها.” ويضيف:

David Johnson

أحد أبرز منظّري التعليم من أجل السلام، بأن “المناهج في سياقات ما بعد النزاع يجب أن تركز على فهم العنف كفشل جماعي، وليس كحتمية ثقافية أو إنجاز سياسي. ”

فهل يمكن للجنرالات أن يكتبوا عن فشلهم؟

هل يمكن لموظف سابق في الأمم المتحدة، حين يُجنَّد لإدارة واجهة مدنية لحكومة عنصرية عسكرية، أن يخطب عن التسامح؟

هل يمكن لحكومة تحتفل بكتائب البراء بن مالك والبنيان المرصوص وايدولوجية الهوس الديني أن تُدرّس أطفال وشباب السودان عن التعايش؟

قارنوا هذا بالتحولات العميقة التي شهدتها مناهج التعليم في رواندا بعد الإبادة، حيث تم اعتماد مناهج تركز على “الذاكرة التعددية” و”المسؤولية الجماعية” و”الهوية الوطنية الجامعة”. في ألمانيا، تم تطوير ما يُعرف بـ”مناهج نقد الذات التاريخية”، والتي تدرّس والنازية وجرائمها كنقطة انهيار أخلاقي للأمة، لا كمجرد “تاريخ”. حتى تركيا، رغم كل تحفظاتها، حاولت تفكيك بعض أساطيرها القومية عبر مراجعات جزئية لمناهجها بعد فظائع الحرب العالمية، وجرائمها ضد الأقليات في تركيا وضد الشعوب التي استعمرتها.

دعوة إلى الوحدة من “قاعة التعذيب: ”

حين يقول كامل إدريس إن إدراج الحرب في المناهج يهدف إلى “تعريف الطلاب بالواقع السياسي والاجتماعي” و”تعزيز الوحدة الوطنية”، فإننا نعيش مفارقة مريرة؛ أشبه بمنظّر للتسامح يلقي محاضرته من داخل غرفة تعذيب. أي “واقع سياسي” يريدون تدريسه؟ الواقع الذي يصادر حرية الإعلام؟ الذي يعاقب الولايات المتمردة؟ الذي يصنّف المعارضين كخونة ويحكم عليهم بالخيانة العظمي؟ ام الواقع الذي يعيد بث ثقافة الرؤوس المقطوعة والبطون المبقورة؟

استدعِ هنا المفكر

Howard Zinn

الذي قال:

“التاريخ الذي يُكتب من منظور الحكومات القامعة لا يُنتج أمة مثقفة، بل قطيعًا مطيعًا”

وهذا بالضبط ما تهدف إليه “مناهج الحرب” التي تقترحها حكومة بورتسودان. ليس تعليمًا، بل تدريبًا، ليس معرفة بل تطويع، ليس تاريخًا بل تبريرًا رسميًا للجرائم.

السودان الجديد والمناهج الممكنة:

إن السودان الجديد، كما صاغته وثائق تحالف “تأسيس”، لا يرى في الحروب بطولة، بل جرحًا تاريخيًا يجب مداواته.

السودان الجديد يُعلّم تلاميذه أن السلام ليس مجرد غياب للرصاص بل حضور للعدالة.

في مناطق الأراضي المحررة، والتي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال تم ابداع واستخدام مناهج بديلة في ظل ظروف قاسية، لكنها سعت إلى غرس قيم المواطنة التي تبني على العلمانية والديمقراطية والسلام، والهوية الجامعة، والعدالة التاريخية وحق تقرير المصير.

فلسفة التعليم يجب أن تُبنى على رؤية تقود نحو التحرير، كما يقول

Paulo Freire

في كتابه

:Pedagogy of the Oppressed

“التعليم لا يمكن أن يكون حياديًا، إما أن يكون أداة للتحرير أو وسيلة للاستعباد”

وحكومة بورتسودان اختارت الاستعباد.

خاتمة: لا استشفاء في ثكنة عسكرية… بل في مشروع تحرري جذري:

يركز كامل إدريس في دعوته على “أهمية التركيز على الاستشفاء الوطني ونبذ الجهوية والعنصرية والمناطقية”، وهو تصريح يبدو كما لو كان مقتبسًا من إحدى ندوات اليونيسكو، لكنه في الواقع لا يختلف كثيرًا عن مطالبة زعيم عصابة بتعليم الأطفال أخلاقيات نبذ العنف! إذ كيف يُعقل أن تصدر مثل هذه الدعوات من حكومة تستند إلى وثيقة دستورية معدّلة صيغت خصيصًا لإقصاء المدنيين، وتكريس السلطة للعسكر، والإبقاء على حالة الطوارئ، وتعليق العدالة الانتقالية، وتبرير الحروب بوصفها وسائل مشروعة لإدارة التنوع السوداني؟

الوثيقة الدستورية المعدّلة التي تحكم بورتسودان اليوم تمنح الجيش صلاحيات مطلقة، وتشرعن تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية دون أي رقابة مدنية، وتُبقي على أدوات القمع والملاحقة الأمنية بحجج “السيادة والاستقرار”. إنها ليست وثيقة شفاء، بل نص قانوني لحراسة الخراب.

في المقابل، يبشر مشروع السودان الجديد وتجاربه، كما يبشر ميثاق تحالف “تأسيس” ودستوره برؤية تعليمية تُبنى على حقوق الإنسان، والتعددية، والنقد، والعدالة التاريخية وما تتيحه من عدالة معرفية. يقر ميثاق تحالف تأسيس ب إعادة صياغة المناهج لتكون حاضنة لقيم التنوع والحرية والإبداع، وعلى تمكين الطلاب من التفكير المستقل، وربط التعليم بأهداف السلام والتنمية والعدالة الاجتماعية. لا حديث عن طاعة عمياء، ولا تعبئة فكرية، بل عن استعادة إنسانية السودانيين بوصفهم مواطنين كاملي الأهلية، لا أدوات في ماكينة أيديولوجية مريضة من الهوس الديني والتعصب الاثني.

إن الفرق بين مشروع بورتسودان ومشروع تأسيس هو الفرق بين مناهج تُكتب تحت وقع الرصاص، وأخرى تُبنى على أنقاضه. الأول يريد تلاميذًا يعيدون تكرار رواية السلطة، والثاني يريد أجيالًا تكتب روايتها الخاصة. الأول يرى في التعليم وسيلة للسيطرة، والثاني يراه مساحة للتحرر.

وبينما يُنصّب كامل إدريس لتلميع وجه الاستبداد، يتمسك السودانيون الذين حلموا بالسودان الجديد بتعليم يليق بأطفالهم وشبابهم: تعليم يصالحهم مع ذواتهم، وينقلهم من الحروب إلى الأمل، ومن الجراح إلى الخيال. وكما قال جون ديوي ما يعني:

. “لا ديمقراطية دون تربية حرة، ولا تربية حرة في ظل مؤسسات تخشى الحقيقة”

لهذا، فإن ما يدّعيه كامل إدريس عن “الاستشفاء” ليس إلا قناعًا مزيّفًا يغطي استمرار سياسة الحرق والقتل والتجويع باسم هيبة الدولة. أما الشفاء الحقيقي، فسيأتي من مشروع وطني تحرري، لا من وثيقة عسكرية، ولا من خطابات موظفين وظيفتهم الوحيدة أن يُجمّلوا القبح بالاحتيال.

والدرس الذي يجب أن يُدرّس اليوم لأطفال السودان:

أن لا يقبلوا أن يُكتَب مستقبلهم بأيدي من شوّهوا حاضرهم.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!