رأي

هل من مصلحة الوطن أن نجعل من الإسلامويين ألغامًا في طريقه؟

نجم الدين دريسة

مرّت التجربة الإسلاموية في السودان بمآلاتها الكارثية، كاشفةً عن عمق التشوّه الذي طال الفكرة الإسلامية حين تم تحويلها من منظومة قيم رحبة إلى أداة للهيمنة والإقصاء، بل إلى مؤسسة أيديولوجية نافية للآخر. لقد دمرت هذه التجربة، في مآلها العملي، بنية الدولة وأجهزتها، وأشعلت الحروب، ومزّقت النسيج الاجتماعي، ورسّخت خطاب الكراهية والعنصرية، فغرق الوطن في مستنقع من الأزمات المتداخلة.

إنها تجربة، مهما طالت، كان الفشل مصيرها المحتوم. وقد تنبأ الشهيد المفكر محمود محمد طه بهذه النهاية منذ وقت مبكر، مؤكدًا أن مرور السودانيين بتجربة “جماعة الهوس الديني” قد يكون ضرورة تاريخية ليتبيّن لهم خطر هذا الفكر الإقصائي وفساده البنيوي، وكي يتمكنوا من استئصاله من جذوره. طه، ببصيرته المعهودة، أشار إلى أن هذه الجماعة ستحوّل نهار السودان إلى ليل، وأن النهاية ستكون فتنة تمزق صفوفهم، ويُقتلعون من الأرض اقتلاعًا. واليوم، تبدو نبوءته أقرب إلى واقعٍ معاش، حيث تحققت ست من “السبع سوفات” التي أشار إليها، ونحن الآن نعيش وقائع السابعة.

وإذا كانت ثورة ديسمبر قد أطاحت بهذه المنظومة من السلطة، فإن شخوصها ما زالوا داخل الوطن، وسيحاولون إعادة إنتاج خطابهم ومشروعهم بأسماء ومسميات مختلفة. وهنا يبرز السؤال الجوهري:

هل من الحكمة أن نتركهم يتحوّلون إلى ألغام مزروعة في طريق بناء السلام والديمقراطية والعدالة؟

لقد أجاب الإمام الراحل الصادق المهدي، بدقة وبعد نظر، على هذا التساؤل حين قال: “لا مصلحة لوطننا أن نصنع من الإسلامويين ألغامًا في بناء السلام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.” وهذه مقولة تجسد وعيًا سياسيًا ناضجًا، يدرك أن الاستقرار لا يتحقق بإقصاء أحد عن الوطن، ولكن يتحقق بمنع أي مشروع من تفجير الوطن من داخله.

إن الإسلامويين – وقد أسهموا بوضوح في إفساد الحياة العامة – مدعوون اليوم لمراجعات فكرية عميقة، تخرجهم من أسر الأفكار الجاهزة والعقليات المغلقة، وتضعهم في مواجهة تحديات العصر ومتطلباته. مراجعات تنطلق من المفاهيم الأربعة الضرورية لبناء أي دولة حديثة: الحرية، السلام، العدالة، والشورى؛ لا بوصفها شعارات، بل كحواضن موضوعية لدولة المواطنة، التي لا تميز بين أبنائها على أساس الدين أو العرق أو الفكر.

ولا بد من الاعتراف أن حتى التجربة الإسلامية التاريخية – بما فيها عهد الخلافة الراشدة – لم تخلُ من مظالم سياسية واجتماعية، بل إن بعض هذه المظالم مُنحت غطاءً دينيًا. وهذا التقديس المغلوط يتعارض تمامًا مع المفهوم المعاصر للعدالة وحقوق الإنسان.

إن المفارقة المؤلمة أن كثيرًا من الدول العلمانية سبقتنا بمسافات ضوئية في تطبيق القيم الأخلاقية التي يدعو لها الإسلام: الصدق، الوفاء، احترام الآخر، النزاهة، والعدالة الاجتماعية. بينما بقينا نحن أسرى لشعارات دينية بلا مضمون، نؤدي الشعائر ونخون المعاني. وهذا ما عبّر مضمون ومقولة : “الإسلام هو أفضل دين، لكن المسلمين أسوأ من يطبّقه”.

ختامًا، لا نملك الحق في حرمان الإسلامويين من حقهم في الانتماء إلى هذا الوطن، لكن من حق الوطن علينا أن نوقف تمدد خطابهم السياسي الذي يهدد مشروع الدولة، ويعرقل التحول نحو السلام والاستقرار والديمقراطية.

الوطن يسع الجميع، لكن لا يسع مشروعًا يُقصي الجميع.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!