
من بين أنقاض وطنٍ يتداعى، ومن فوق فوضى بورتسودان التي أُفرغت من ملامحها كما أُفرغت البلاد من معناها، يخرج علينا دمية البرهان ببدعةٍ لم يجرؤ عليها حتى أكثر الطغاة عبثًا: *فتح باب التقديم الإلكتروني لتولي مناصب وزارية في “حكومته” القادمة!
تشكيل حكومة عبر الإنترنت؟ يا لسخرية المصير! صارت الوزارة وظيفة على قارعة الشبكة، تخضع لنفس معايير أي إعلان توظيف عابر، وتُعامل كما لو كانت وظيفة في شركة شحن أو “كول سنتر”. يكفي أن يملأ المواطن الاستمارة، ويُرفق سيرته الذاتية، فيحالفه الحظّ ويُصبح وزيرًا في حكومة بحر الأفكار ومبتدع الملكية الفكرية كميل إدريس!
إنّ الوزارة، يا هذا، ليست وظيفة تُمنح لمن يُجيد ملء الفورم، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية وتاريخية، لا يجرؤ على حملها إلا من عرفه الناس بالكفاءة، وطهّره الميدان، ونقّته الثورة. أمّا أن يتنافس عليها الطامحون عبر شبكة الإنترنت، فهذه نكتة سمجة، وفرية ساقطة سياسيًا ووطنيًا، بل ساقطة حتى دينيًا، وقد جاء في الأثر: “من طلب الولاية لا يُولّى”
ثم من ذاك الأبله الذي لا يعلم أن “*كميل*” هذا ما هو إلا دمية حريرية، تحرّكها أصابع النظام القديم من خلف الستار؟ وأنّ المسرح مُدار من ركنٍ بعيد، حيث يقيم *البرهان*، ذلك الذي انقلب على آمال ثورة الشعب، وأشعل نيرانها فوق رؤوس أصحابها؟ أي سذاجة يتوقعونها من الناس، وهم يروّجون لحكومة “مفتوحة للتقديم”؟ وأي عبث هذا الذي يريدون به إيهام العالم بأن الانقلاب قد لبس طربوش الديمقراطية، وارتدى كرافتة الشفافية، وتأنّق في بذلة مدنية مُفصّلة في مشغل بورتسودان، بأيدي “*ترزية*” على الشريعة الإسلامية؟!
وأي منطق سياسي يُحوّل الوزارة من تكليف وطني ثقيل إلى وظيفة عامة تُعلن عنها الصحف وتُجمع لها السير الذاتية؟ أي هُزال هذا؟ إنهم أغبياء، لا يملكون الحد الأدنى من الخيال، يعيدون تدوير الرداءة بشكل رقمي، متخيّلين أن الإنترنت قد يضفي هالةً من المصداقية والحداثة على الكذب والفشل، ولا أعرف من في هذا العالم يحاولون إقناعه بأن من يخرج من رحم الانقلاب يمكن أن يقود إلى الحكم الرشيد؟
ومن هنا، تصبح فكرة الوزراء الإلكترونيين ليست مجرد غباء سياسي وسذاجة إدارية، بل أداة سياسية مقصودة لتضليل الداخل والخارج على السواء. وهي محاولة للتذاكي على المجتمع الدولي، وذرّ الرماد في عيون السودانيين، بأن ثمّة تنافسًا، وشفافية، ومؤسسية، بينما في الحقيقة، ما يجري هو هندسة خبيثة لإعادة تدوير كوادر الإسلاميين والانقلابيين وجماعات الموز السياسي، ضمن عباءة مدنية رديئة الصنع!
في نهاية المطاف، إنّ سلطة البرهان وكيزانه في بورتسودان سلطة وهمية، لا سند لها من الشعب، أو الشرعية، أو التاريخ، تليق بها تمامًا فكرة تشكيل حكومة إسفيرية هوائية لا وجود لها في أرض الواقع.
إنهم غير خلّاقين حتى في الكذب!