رأي

تجربتي في النزوح من الفاشر نحو اللامكان

د. فاطمة الزين الغالي

(الحلقة الأولى: فاطمة مينا وظل المدرسة القديمة)

إلتقينا قبل خمسة وعشرين عاماً في فناء مدرسة الفاشر الثانوية للبنات. في ذلك الصباح المشمس من عام 1999، كنت أقف بقلبي المراهق وروحي المتطلعة وسط مجموعة من الطالبات الجدد، حين جاءتني رحمة أبكر من حي برنجية تجرّ وراءها طاقة نادرة من الذكاء والبهجة، تبعتها فاطمة مينا من حي شوبا بضحكتها الخافتة وهدوئها اللافت، ثم أم مسار جبريل من حي التجانية، بعينيها اللتين تشعّان حزماً وجدية.

في تلك اللحظة ولدت صداقتنا؛ لم نكن ندرك حينها أن مساراتنا ستتشابك لربع قرن بين الحب، والعلم، والحرب، والموت، والنزوح.

كنا أربع زهرات في حديقة المدرسة؛ أنا، المغرمة بالتاريخ والجغرافيا، فاطمة مينا التي كان كتاب الأحياء لا يغادر يدها، رحمة التي أصبحت ملكة الرياضيات والفيزياء، وأم مسار التي غلبها القدر فتوقفت دراستها مبكرًا بعد زواجها من ابن عمها النور فضيل.

كنا نعلم أننا مختلفات، لكن المدرسة كانت تذيب اختلافاتنا، وتعلّمنا أن نكون “سودانيات” أولاً، قبل أن نكون بنات دارفور، أو حفيدات القبائل، أو ضحايا التصنيفات.

مرت السنوات، وخرجنا من المدرسة إلى الجامعات، ثم إلى فضاء الحياة الأوسع. التحقتُ بكلية العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، ومنها سافرت إلى كاليفورنيا حيث أكملت دراساتي العليا واستقررت. فاطمة مينا عادت إلى الفاشر وأصبحت معلمة أحياء بالمدرسة التي جمعتنا، بينما اختارت رحمة أبكر أن تنضم لكلية الصيدلة بجامعة الجزيرة، وعادت لاحقًا للعمل في الصيدلية المركزية بالمستشفى السعودي بالفاشر.

أما أم مسار فقد اختفت من المشهد. زواجها المبكر، مسؤولياتها العائلية، والبعد عن دوائر التعليم والتكنولوجيا جعل التواصل معها مستحيلاً لسنوات.

لكنني بقيت على صلة دائمة برحمة وفاطمة، كنا نتبادل الأفكار والهموم. ومنذ عام 2003 بدأت الشكاوى تتصاعد. كانت صديقتاي تتحدثان بحسرة عن تدهور النسيج الاجتماعي في دارفور، عن اتساع الشروخ، وتحوّل الجيرة إلى شك، والألفة إلى ارتياب. كانت فاطمة تقول دومًا: “لم نعد نعرف بعضنا، كأننا خسرنا مرآتنا”.

فكّرنا كثيراً في تأسيس منظمة أهلية باسم “دارفور بلدنا” تركز على إعادة بناء الثقة بين الناس، وأملتُ أن أوفر لها دعمًا من المؤسسات المعنية بالسلام الاجتماعي هنا في الولايات المتحدة، لكن الأوضاع على الأرض كانت تتدهور بشكل أسرع من خططنا وأحلامنا.

ثم جاءت الحرب…

حرب 15 أبريل 2023، التي لا تزال نيرانها تحرق الأرواح قبل المدن. انقطع التواصل، وغرقت الفاشر تحت الحصار. لم أعد أسمع من فاطمة أو رحمة إلا نادرًا، وكانت كلمات كل منهما تنقل لي حجم الفاجعة التي يعيشها الناس: ندرة في الطعام، فوضى أمنية، ترويع، انقسام عميق في ولاءات المجتمع، حتى صار البيت الواحد منقسمًا على نفسه.

ثمانية أشهر مرت. ثم ذات ليل، رن هاتفي على غير المعتاد كان صوت فاطمة مينا على الطرف الآخر. باهتًا، متعبًا، مختنقًا. “أنا بخير… خرجنا من الفاشر”، قالتها بصوت مرتجف. حكت لي كيف خرجت مع أسرتها عبر طرق وعرة نحو تارني، وكيف أن قوات الدعم السريع لم تمنعهم كما أُشيع، بل ساعدتهم، ونقلوهم بسياراتهم حتى قرب المنطقة. “لقد فتشوا الرجال، دققوا كثيرًا، نعم، لكنهم أعطونا ماء وطعاماً. كانوا أرحم مما كنا نتصور…”، هكذا قالت كانت الرحلة مرهقة، لكنها قالت:”الخروج من الفاشر يشبه الخروج من الجحيم”.

لم أكن أتخيل أن صديقتي التي حلمت بإصلاح المجتمع ستصبح لاجئة على أعتاب اللامكان. لكنّها ما زالت تقاوم، وتحكي، وتتمسك بالأمل.

إلى الحلقة الثانية؛

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!