
(الحلقة الثانية: رحمة أبكر من الفيزياء إلى قوافل النزوح نحو مليط)
حين عاودت الاتصال بفاطمة مينا بعد مكالمتنا الأولى، سألتها عن رحمة أبكر. كان صوتها يختنق وهي تهمس: “رحمة خرجت من الفاشر قبلنا… لم تكن قادرة على الانتظار أكثر، سارت شمالًا، نحو مليط، ومنها إلى ليبيا”.
هزني الخبر. لم أكن أتصور أن صديقتنا، الأذكى بيننا، من أضاءت فصول الفيزياء في المدرسة الثانوية بذكائها النادر، ستكون الآن تسير في صحراء النزوح، تلاحق المجهول بين قوافل الهاربين من الحرب.
رحمة، التي لطالما رفضت الظلم بصمتها الصارم، والتي قاومت تمزيق النسيج الاجتماعي بأعمالها لا بشعاراتها، باتت نازحة بلا عنوان، هاربة من الفاشر التي طالما عشقتها، بعدما أصبحت المدينة ساحة صراع، ومأوى للعنف، وسوقًا للابتزاز باسم الوطن.
خرجت رحمة من الفاشر في قافلة مشاة صغيرة، كانت تقل أسرًا حاولت الإفلات من الحصار، عبر طريق شاق يمر بأم مراحيك ثم مليط، وصولًا إلى كرب التوم. لم تكن القافلة تملك شيئًا سوى الأمل في النجاة. تقول فاطمة مينا إنها تحدثت معها قبل الرحيل بيومين فقط، وكانت رحمة حينها شاحبة الصوت، لكنها حاسمة: “سأخرج، هذا لم يعد وطني الذي نعرفه، صار سجنًا داخليًا كبيرًا… الموت في الطريق أقل قسوة من الذل خلف الحواجز”.
رحمة، التي كانت تعمل في الصيدلية المركزية بالمستشفى السعودي، رأت كل شيء بأم عينيها: المرضى وهم يحتضرون بلا دواء، والجرحى يتساقطون على الأرصفة، والناس يتوسلون جرعة أنسولين أو مسكنًا لآلامهم. كانت ترى كيف تُخزّن الأدوية في المخازن لمصلحة قيادات في الجيش والقوات المشتركة، وتُمنع عن المدنيين. وكانت، في المقابل، تسمع عن مآسي مماثلة خارج المدينة، حيث الدعم السريع يفرض سيطرته، لكنه أحيانًا يفتح ممرات للهاربين دون إذلال.
في طريقها إلى مليط، اختارت رحمة أن تصطحب أبناء أخيها، بعد أن فقد أخوها منزله في قصفٍ عشوائي. تقول الروايات التي نقلها الناجون إنها عانت الأمرّين، خاصة عند المعابر غير الرسمية، حيث كان العطش والجوع والإرهاق يلتهم الجميع. ورغم ذلك، ظلت تلك المرأة القوية تُوزّع ما تبقى من دواء تحمله في حقيبتها الصغيرة على الأطفال والنساء.
وفي كرب التوم
، لم تجد سوى أطلال حياة، ووجوهًا مثلها تبحث عن مخرج. وهناك اتصلت، لمرة وحيدة، بفاطمة مينا عبر رقم ليبي، قالت: “أنا في طريق العبور… لكنّي لست بخير. لا نعرف هل نصل أم نموت في الطريق”. كانت تلك آخر مرة تُسمع فيها رحمة. بعد ذلك، انقطعت أخبارها. لا نعلم هل وصلت ليبيا؟ هل ما زالت حية؟ أم اختارت الصمت طوعًا لحماية نفسها من القهر والخذلان؟
أصبحتُ أقضي ساعات طويلة أبحث عن اسمها في قوائم اللاجئين، في تقارير الصحف والمنظمات، أسأل من أعرف من الناشطين، لكن لا أثر لها. رحمة، التي أرادت أن تعيش بكرامة، ذهبت إلى المجهول… كما يذهب الشرفاء دائمًا حين تضيق بهم أوطانهم.
لكن رغم الغياب، بقيت كلماتها ترنّ في أذني:
“الحل ليس في من يحكم… بل في كيف نعيش معًا.”
في الحلقة الثالثة والأخيرة: “ظهور أم مسار جبريل… حين التقت الصديقات في تارني من جديد”