رأي

من دمية البرهان إلى عُرّة السودان: نظرة في خطاب (الأمل) الغائب عن الحرب!

منعم سليمان

جاء خطاب كميل إدريس عن معالم حكومة الأمر الواقع المرتقبة في بورتسودان، الذي تلاه أمس، باهتًا، مليئًا بالشعارات، والوعود الفارغة، والأحلام، والأوهام.

كان الخطاب مملًّا، أقرب إلى موعظة أو خطبة جمعة رتيبة، منه إلى بيان دولة يُلقيه من يُفترض أنه رئيس وزراء لسلطة تأسست على ركام الحرب وشرعية السلاح.

لقد كنا أمام واعظٍ مأجور يتلو وصايا أخلاقية في عزّ احتضار الوطن: خطاب إنشائي متناقض، منسلخ عن الواقع، مُصاغ بلغةٍ روحية مترفعة، وكأن القائل لا يجلس على رأس سلطة غير شرعية خرجت من عباءة انقلاب عسكري لا يعترف بها أحد في هذا العالم، حتى في محيطها الإفريقي، بسبب الانقلاب العسكري في 25 اكتوبر، ذلك الذي أتى بالسيد كميل، لا حرب 15 ابريل!

 

لم يكن الخطاب إعلانًا عن برنامجٍ سياسي كما توقعت، فأضعت وقتي، بل كان تمرينًا إنشائيًا ركيكًا ومرتبكًا، يهدف إلى خلق شرعية بديلة عبر الكلمات، في غيابٍ كامل للشرعية السياسية، والقانونية، والشعبية.

لقد استُبدلت السياسة وقضايا السودانيين الملحّة بالعِظة، واستُعيض عن الإقرار بالمأساة الوطنية بنبرة استعلائية فارغة، تطمئن السامعين بأن الأمور تحت السيطرة، بينما البلاد تمزقها حربٌ مدمرة لا تخمد، وجوعٌ يتزايد، وأوبئةٌ تنتشر، ونزوحٌ ولجوءٌ يتسعان.

 

تفاهة الخطاب تكمن في تجاوزه لقضية الحرب المدمرة الدائرة حاليًا في البلاد، إذ إن أكبر اختبارٍ لجدية وشرعية أي سلطة أو جماعة سياسية في البلاد هو موقفها من الحرب، والرجل لم يذكر أي مفردة واحدة تطالب بوقف الحرب، دعك من أن يعلن وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار يثبت به جدية سلطته.

وهذا ما يرسّخ عليه وصف “دمية البرهان” الذي أطلقه عليه لورد بريطاني، ويؤكد المؤكَّد بأنه قد جِيءَ به محللًا للانقلاب، وظلًّا مدنيًا باهتًا لرئاسة سلطة ديكورية تعمل كغطاء لسلطة العسكر والكيزان الحقيقية.

 

الخطاب أيضًا غارق في ارتباكه وتناقضاته الأخلاقية، حيث يقدّم السيد “كميل” حكومته باعتبارها “زهيدة العين”، وفي الوقت ذاته “جالبة للرفاه”. ولم يقل لنا كيف سيتحقق الرفاه مع التقشّف، بل كيف يتحقق مع الحرب، والجيش، والمليشيات والنهب والفساد؟ ولا كيف يمكن أن تُبنى دولة القانون بمجرد الدعوة إلى “الصدق، والأمانة، والعدل”؟!

نعم، هذه قيم فاضلة وجميلة، خصوصًا عندما تُقال في ليلة الجمعة، لكنها قطعاً لا تُؤسّس لحكم راشد، خاصة وقد رأى السودانيون الإبادة والويل من جماعة لم يبشّروهم بالأمل على الأرض فحسب، بل في السماء أيضًا، التي زوّجوهم فيها حورًا وحسانًا، انتهت بالبلاد إلى الكارثة التي تعيشها الآن!

 

والانفصال المهول عن الواقع يكمن في اختيار “الأمل” شعارًا لحكومته، في لحظةٍ تاريخية تُختزل فيها حياة السودانيين بين المقابر، والفقر، والمرض، والمجاعة، والنزوح والذل، دون تقديم أيّ تصورٍ سياسي لحل هذه القضايا، بل في تجاهلٍ واضحٍ وإنكارٍ لحالة الحرب!

فـ”الأمل” في حد ذاته ليس مشروعًا، ولا شعارًا يصلح لبداية الطريق، بل هو نتيجة، وحصيلة مسارٍ طويل من الإنجاز، والمصالحة، والاعتراف بالدم.

وأن تُختزل كل هذه التعقيدات في لافتةٍ ميتة لغويًا، هو جهلٌ واستخفافٌ غير معلن بعمق الأزمة الوطنية.

في المحصلة النهائية، لم يكن خطابه خطاب “الأمل”، بل خطاب “الألم”، الذي سعى لإنتاجه عبر الإنشاء والوهم، لكنه نسي أن لا شيء في السودان جُرّب أكثر وأخطر من الأمل، خصوصًا حين يُقدَّم على خديعة الكيزان والعسكر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!