رأي

رؤية صمود لإنهاء الحرب واستعادة الثورة، هروب من الواقع وعجز عن معالجة جذور الأزمة(2-2)

خالد كودي

ثالثاً: الدولة المدنية كقناع للنكوص السياسي – والعلمانية كشرط تأسيسي للمواطنة المتساوية:

تستخدم وثيقة “صمود” مصطلحات مثل “الدولة المدنية” و”النظام الديمقراطي”، لكن دون أن تقرن هذه المفاهيم بتحديدات دستورية واضحة حول طبيعة الدولة وهويتها التأسيسية. فالدولة المدنية، في هذا السياق، تتحول إلى قناع لغوي يخفي خلفه تردداً مفاهيمياً وهروباً سياسياً من أكثر الأسئلة إلحاحاً في السودان: علاقة الدين بالدولة، وشرط المساواة في المواطنة، وضمان الحريات الدينية والسياسية للجميع.

إن تجنّب “صمود” لمصطلح العلمانية، والاكتفاء بالتلميح إلى دولة غير عسكرية، يعكس خوفاً بنيوياً من مواجهة إرث الإسلام السياسي، بل ويمثل استسلاماً لإملاءات ثقافية واجتماعية تحافظ على الامتيازات الرمزية للنخب التي صاغت الدولة القديمة. وفي هذا، تكرر الوثيقة ذات الذهنية التي حكمت التجربة الانتقالية بعد 2019، حين جرى التهرب من طرح علمانية الدولة صراحةً، مما سمح للقوى الدينية المحافظة بإعادة تموضعها داخل مؤسسات الحكم ووسائل التأثير.

لكن في السياق السوداني الراهن، وبعد عقود من تسييس الدين، وتوظيفه لتبرير الحروب والقمع والتمييز، لم يعد ممكناً الحديث عن أي مشروع تأسيسي جديد دون تبني العلمانية بشكل صريح ومبدئي. فالعلمانية ليست نزعة إقصائية كما يُصوّرها خصومها، بل هي الإطار الحيادي الوحيد الذي يكفل حرية المعتقد، ويحمي التعدد الديني، ويضمن تساوي المواطنين أمام القانون بغض النظر عن خلفياتهم العقائدية.

إن مشروع “السودان الجديد” الذي انبثق من الهامش، وعبّر عن أعمق أشكال المقاومة للهيمنة المركزية والدينية، قد جعل من العلمانية عنصراً بنيوياً في رؤيته. فالعلمانية في هذا السياق ليست فقط آلية لفصل الدين عن الدولة، بل ضمانة ضد إعادة إنتاج الإقصاء، وشرط ضروري لبناء عقد اجتماعي جديد لا يختزل الوطن في هوية واحدة، ولا يفرض شكلاً واحداً من التدين أو الولاء.

ميثاق “تأسيس” يُقدّم نموذجاً واضحاً في هذا الاتجاه، حيث ينص صراحةً على:

 

• بناء دولة علمانية تحمي حرية المعتقد والمساواة التامة بين المواطنين.

 

• تفكيك أجهزة القمع الديني والمؤسسات التشريعية القائمة على التمييز.

 

• تحييد الدين عن المجال السياسي باعتباره عنصراً انقسامياً في التاريخ السوداني.

أما وثيقة “صمود”، فإنها بإصرارها على الغموض، تفتح الباب أمام بقاء مشروع الإسلام السياسي داخل بنية الدولة، ولو بواجهة مدنية. وهذا يتناقض مع تضحيات الحركات التي انطلقت من الهامش – من الفونج الجديد الي دارفور إلى جبال النوبة- والتي قدمت عشرات الآلاف من الشهداء من أجل دولة لا دينية ولا عرقية، بل دولة تعددية قائمة على المساواة الكاملة.

إن أي حديث عن المواطنة المتساوية دون علمانية هو كلام بلا مضمون. فالمواطنة لا تُبنى على مشاعر الآخرين أو على مراعاة إرثٍ قمعي، بل على قواعد دستورية واضحة تضمن الحقوق للجميع وتمنع مصادرة الحريات باسم الدين أو الهوية. ولذلك، فإن الرضوخ لحسابات النخب المترددة كما تفعل وثيقة “صمود” لا يُنتج سوى مشروع انتقالي هش يعيد إنتاج الاستبداد بشكل ناعم. المطلوب اليوم هو علمانية ديمقراطية، ليست إقصائية، بل تأسيسية: علمانية تحرر المجال العام، وتُعيد بناء الدولة على أسس العدالة، وتُخرج السودان من نفق الإسلام السياسي وتوابعه مرةً واحدة وللأبد.

رابعاً: غياب الحديث عن تفكيك الجيش وبناء منظومة أمنية جديدة – الثورة ومهمة إنشاء جيش وطني جديد:

– واحدة من أخطر مواطن النقص في وثيقة “صمود” هي غياب أي تصور جاد ومفصّل حول مستقبل القوات المسلحة في السودان. فعلى الرغم من أن المؤسسة العسكرية كانت، ولا تزال، أحد الأسباب المركزية في إعادة إنتاج الاستبداد والانقلابات والحروب، تتعامل الوثيقة مع الجيش بمنطق إصلاحي تقليدي، يُعيد إنتاج سرديات النخب المركزية حول “جيش واحد وطني”، دون مساءلة جذوره العقائدية أو بنيته الطبقية أو أدواره الإيديولوجية في حماية مشروع الدولة الإسلاموعروبية.

– إن خطاب “صمود” في هذا الصدد لا يخرج عن تلك اللغة المراوغة التي استخدمتها الحكومات الانتقالية السابقة، والتي طالبت بدمج القوات وتحديث العقيدة العسكرية، لكنها امتنعت عن طرح مطلب تفكيك الجيش القائم، وإعادة تأسيسه على أسس دستورية وشعبية. بهذا، فإن الوثيقة تعكس لا فقط تردداً سياسياً، بل أيضاً عجزاً عن التقاط اللحظة الثورية التي يتطلبها بناء دولة جديدة من الأساس.

– في المقابل، يطرح ميثاق “تأسيس” مقاربة جذرية وشجاعة، تنطلق من فهم تاريخي عميق لطبيعة الجيش السوداني بوصفه أداة قمع مركزية تشكلت في سياق استعماري وما بعد استعماري لحماية المركز ضد الأطراف، وضد أي مشروع وطني تعددي. ولذلك، يدعو “تأسيس” إلى:

• تفكيك الجيش القائم وإعادة بنائه من الصفر على أساس الولاء للدستور، لا للعرق أو القبيلة أو العقيدة.

• تأسيس قوات أمنية لا مركزية ترتبط بالمجتمعات المحلية والأقاليم، وتخضع لسلطة مدنية تشريعية وتنفيذية منتخبة.

• إخضاع جميع الأجهزة الأمنية، بما فيها كل قوات الحركات المسلحة- بدون استثناء، للمحاسبة والمساءلة ضمن مسار عدالة انتقالية شاملة.

إن التأسيس الحقيقي لدولة جديدة في السودان يمر، من دون شك، عبر إعادة بناء المؤسسة العسكرية كلياً، وليس

عبر ترقيعها أو إصلاحها من الداخل. فالمهمة التاريخية لثوار السودان الجديد هي قطع الطريق على إعادة إنتاج الجيش كمؤسسة فوق دستورية، وتحويله إلى جهاز جمهوري مدني يخدم المجتمع ولا يتسلط عليه. وهو ما تغفله “صمود” بالكامل، في انحياز سافر لخطاب النخبة الذي يسعى إلى ترميم الدولة، لا إلى إعادة بنائها على أسس جديدة.

• خامساً: في العدالة التاريخية والذاكرة والمحاسبة – فضح احتيال النخب على مفاهيم العدالة

• – من أبرز أوجه النكوص المفاهيمي في وثيقة “صمود” هو تناولها لقضية العدالة بلغة إنسانوية ضبابية، تكتفي بعبارات مثل “حماية المدنيين” و”وقف الحرب” وتقديم المساعدات، دون أن تُحدِّد المسؤوليات أو تُسمِّي الأطراف المتورطة، أو تُقدِّم تصوراً واضحاً لمسارات المحاسبة واستعادة الحقوق. هذه المقاربة تُعيد إنتاج خطاب تكنوقراطي نيوليبرالي، يفصل بين الكارثة الإنسانية ومرتكبيها، ويتعامل مع الأزمة وكأنها كارثة طبيعية أو خلل طارئ، لا نتيجة مباشرة لبنية استعلائية، استعمارية داخلية، قائمة على العنف المُأسس والإقصاء.

• – هذا الاحتيال ليس جديداً، بل هو سمة تاريخية من سمات النخب المركزية في السودان، التي لطالما استخدمت مفاهيم العدالة والإنصاف كمجرد غطاء لغوي لتكريس الهيمنة، وجرّدت هذه المفاهيم من مضامينها التحررية. ففي كل لحظة مفصلية، تطرح هذه النخب شعارات العدالة الانتقالية وكأنها “عصا موسى” القادرة وحدها على حل أزمة السودان العميقة، متجاهلة أن هذه العدالة نفسها – حين تُفصل عن سياقها التاريخي والهيكلي – تصبح أداة لإعادة إنتاج الظلم لا لتفكيكه.

– أما في ميثاق “تأسيس”، فتُعاد صياغة مفهوم العدالة من جذوره، ليُصبح:

• العدالة التاريخية أفقاً يتجاوز العدالة الانتقالية بوصفها مجموعة إجراءات إدارية ومؤسساتية. العدالة التاريخية هنا

تعني مساءلة بنية الدولة نفسها، وتفكيك العلاقات غير العادلة التي قامت عليها.

• إنشاء مفوضيات للذاكرة والاعتراف، تُعنى بتوثيق شهادات الضحايا، وتفكيك الروايات المركزية التي غيّبت أصوات الأغلبية المهمشة.

• مساءلة جميع الفاعلين السياسيين والعسكريين الذين ساهموا في بناء الدولة القمعية، بمن فيهم رموز الأنظمة الديمقراطية الشكلية الذين تواطؤوا بالصمت أو بالتقنين.

• التأسيس لعدالة تاريخية/ اجتماعية شاملة تُعيد توزيع الثروة والسلطة وتفكك الامتيازات التاريخية الطبقية والعرقية التي كانت سائدة.

المبدأ فوق الدستوري في وثيقة “تأسيس” يقر بما يلي: “تستند الدولة الجديدة إلى مبدأ الاعتراف بالضحايا والمجتمعات المتضررة بوصفها شريكاً مؤسساً، وتمنحها الأولوية في عملية إعادة التأسيس والعدالة والتعويض.”

بهذا الفهم، تتحول العدالة من عملية إجرائية إلى أفق تأسيسي، تتضمن المساءلة، واستعادة الكرامة، وتفكيك الهياكل التي أسست للجريمة، وليس فقط محاكمة بعض الجناة. بينما تحاول “صمود”، عبر لغتها التقنية، تفريغ مفهوم العدالة من هذا البعد التأسيسي، وإعادته إلى مجرد ملف تفاوضي أو بند في خارطة طريق دولية، وهو ما يُفرغه من قدرته على التغيير الجذري وذي المعني لضحايا التاريخ السوداني.

لذلك، فإن أي وثيقة لا تُقرّ بمفهوم العدالة التاريخية، ولا تمنح الضحايا موقعاً فاعلاً في كتابة تاريخ الدولة الجديدة، هي وثيقة تساهم في استمرار المنظومة القديمة، ولو بوجه مدني. وما تفعله “صمود” ليس سوى إعادة تدوير للمنظور القديم، بإلباسه خطاباً حقوقياً سطحياً لا يمس جوهر الدولة القمعية التي ثار عليها السودانيون.

سادساً: في العملية السياسية ومفهوم الحل – من التوافق الظرفي إلى التأسيس المبدئي

– تنحاز وثيقة “صمود” إلى طرح مفهوم الحل التفاوضي الشامل بوصفه السبيل الأوحد للخروج من الأزمة، متبنية فكرة التوافق مع جميع الأطراف، بما في ذلك الجيش والمؤسسات القديمة “علي استحياء”، من دون تمييز نوعي بين قوى الثورة وقوى القمع، أو بين الضحايا والجلادين. بهذا، تُعيد الوثيقة إنتاج خطاب التسوية النخبوية الذي طالما وُظّف في السودان لترميم النظام لا تفكيكه، وتدور في ذات حلقة المقايضات السياسية التي كرّست هيمنة المركز وأقصت الهامش.

– غير أن تحالف “تأسيس”، وفي وثيقته ودستوره الانتقالي، يرفض منطق التوافق كحل، ويطرح بدلاً عنه ما يسميه بـ”الحل التأسيسي”، أي عملية سياسية تستند أولاً إلى مبادئ فوق دستورية لا يُسمح التفاوض حولها، بينما يُفتح باب التفاوض السياسي والتقني لما دونها. هذا التصور يرتكز على أن الأزمة السودانية هي أزمة تأسيس، لا أزمة حكم، وبالتالي فإن حلها يتطلب ميثاقاً تأسيسياً جديداً يُعيد تعريف الدولة من جذورها.

وتشمل هذه المبادئ فوق الدستورية كما نصّ عليها ميثاق تأسيس:

– العلمانية، فصل الدين عن الدولة.

– حق الشعوب في تقرير المصير.

– أولوية المجتمعات المهمشة والضحايا في إعادة التأسيس.

– بناء جيش جديد على أساس الولاء للدستور، لا للهويات القبلية أو الدينية.

– الديمقراطية.

– اللامركزية.

. – العدالة التاريخية بوصفها أفقاً لبناء دولة المساواة والمواطنة

هذه المبادئ ليست بنوداً تفاوضية بل قواعد تأسيسية: إنها تُشكّل حدود العقد الاجتماعي الجديد، وتمثل الضمانات الأخلاقية والسياسية التي لا يجوز القفز فوقها تحت دعاوى التوافق أو المصلحة الوطنية. فالتأسيس الحقيقي لا يعني استرضاء القوى القديمة بل مواجهتها، ولا يعني جمع الأطراف كافة بل خلق طليعة جديدة قادرة على صياغة مشروع الدولة من جديد.

أما التسويات التي لا تنطلق من هذه الأسس، فإنها تُعيد إنتاج منطق الإنقاذ ولكن بلغة مدنية، وتُجهض أي فرصة لبناء دولة سودانية عادلة ومتحررة من ماضيها العنيف. وهذا ما يجعل رؤية “صمود”، في صيغتها الحالية، استمراراً لموروث سياسي فشل في كل اختبار تاريخي واجهه، وتفريطاً في التضحيات التي بذلتها قوى الهامش والمهمشون من أجل سودان جديد حقيقي.

خاتمة: من الاستدارة إلى القطيعة التأسيسية

– تكشف وثيقة “صمود”، عند قراءتها بتمعّن، عن استمرار خط النخب المركزية في تفادي القضايا التأسيسية عبر الالتفاف على جوهر الأزمة السودانية. فهي تعيد تدوير مفردات “الوحدة” و”السلام” و”الحل السياسي الشامل”، لا باعتبارها مفاهيم مؤسسة لمرحلة جديدة، بل كآليات لإعادة إنتاج تسويات نخبوية سابقة فشلت في كل مرة. بهذه الصيغة، لا تُنتج الوثيقة بديلاً، بل تحاول ترميم مشروع منهار من داخله.

– إن جوهر الأزمة السودانية، كما تُبرز وثيقة “تأسيس” بوضوح، لا يكمن في غياب الإرادة السياسية، بل في غياب العقد التأسيسي ذاته، وفي هيمنة مركز تاريخي أعاد إنتاج الاستعلاء والإقصاء على مدى عقود. وفي مواجهة هذا الانسداد، لا يصلح الحديث عن توافق سياسي مرن، أو عن مقايضات مرنة، بل عن لحظة تأسيس تُعلن فيها قواعد غير قابلة للتفاوض، تُبنى عليها الدولة الجديدة.

– تحالف “تأسيس” لا يرفض التفاوض من حيث المبدأ، لكنه يضع له إطاراً صارماً: لا تفاوض على المبادئ فوق الدستورية، التي تُعد بمثابة الحد الأدنى لأي صيغة للعيش المشترك. وتتمثل هذه المبادئ في:

لا سلطة فوق إرادة الشعوب.

• لا وحدة دون عدالة، ولا سلام دون اعتراف.

• لا دولة دون علمانية.

• لا عدالة دون مساءلة.

• لا حياد في زمن التأسيس.

هذه المبادئ ليست شعارات، بل شروط وجود لدولة حديثة جديدة تُبنى على المساواة، والكرامة، والمشاركة. إنها أسس غير قابلة للمقايضة، لأنها الضامن الوحيد لتحول حقيقي، لا وهم إصلاحي جديد. وما دون المبادئ فوق الدستورية يمكن التفاوض حوله، لكن ما فوقها يشكل العقد الحامي لكرامة السودانيين وتاريخ تضحياتهم.

إن نقد وثيقة “صمود” لا ينبع من خصومة سياسية أو رغبة في الإقصاء، بل من وعي تاريخي يعي أن الثورات لا تُختزل في إدارات تفاوضية، وأن الشعوب لا تُساوم على شروط تحررها. فالهامش الذي دفع دماءه ثمناً لرؤية السودان الجديد، لا يمكن أن يُطلب منه العودة إلى الصفوف الخلفية بحجة الواقعية أو الإجماع.

نحن أمام مفترق طرق حقيقي: إما تأسيس دولة جديدة تستند إلى الاعتراف والمساءلة والمساواة، أو إعادة إنتاج دولة قديمة بأقنعة جديدة. لا مكان بعد اليوم لحلول وسط تتجنب الحقيقة، أو تحابي القوى التي تسببت في انهيار الوطن. لقد حان وقت القطيعة المعرفية والسياسية، وآن أوان التأسيس دون وجل.

فإما أن نؤسس ما لم يوجد بعد، أو نستسلم لمزيد من العنف والفراغ. والتاريخ، كما علّمتنا تجارب الشعوب، لا يرحم المترددين.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!