رؤية صمود لإنهاء الحرب واستعادة الثورة، هروب من الواقع وعجز عن معالجة جذور الأزمة السودانية (1-2)
خالد كودي

“في نقد رؤية صمود: هروب من الواقع وعجز عن معالجة جذور الأزمة السودانية”
من أبرز الثغرات المفاهيمية والسياسية التي تتبدى في وثيقة “صمود” المعنونة بـ”رؤية سياسية لإنهاء الحروب واستعادة الثورة وتأسيس الدولة – يونيو 2025″ هي تعريفها لنفسها كتحالف مدني ديمقراطي لقوى الثورة، وهو تعريف لا يعكس فقط طموحاً سياسياً مشروعاً، بل يتضمن في صياغته نزعة وصائية واضحة تتخطى حدود التمثيل الواقعي والتفويض الشعبي. فالوثيقة تفترض ضمنياً امتلاك “صمود” لشرعية قيادية وقدرة على التوجيه الاستراتيجي، وهو ما لا تؤكده موازين القوى الفعلية ولا الواقع الميداني المتغير في السودان ما بعد أبريل 2023. في الحقيقة، لا تمتلك “صمود” قاعدة جماهيرية صلبة، ولا نفوذاً ملموساً في مراكز الفعل الثوري أو السياسي الجديد، كما لا توجد مؤشرات على قدرتها على التأثير في معادلات القوى المسلحة أو المجتمعات الهامشية الفاعلة، بل تعتمد في معظم خطابها على تبني مفردات الثورة دون الانخراط الجذري في شروطها الجديدة..
إن تحالف “صمود” يتشكل أساساً من قوى مدنية حضرية، تتركز في العاصمة وبعض المدن الكبرى، وتغلب على بنيته القيادية نخب سياسية وفكرية وإعلامية تقليدية، نشأت في ظل الدولة المركزية القديمة واستفادت من امتيازاتها البنيوية، وتضم القوي عناصر وكيانات من الهامش كتمثيل رمزي. نخب صمود، رغم استخدامها للخطاب الثوري، لم تقم بمراجعة نقدية جادة لتجربتها ولا لدورها التاريخي في إنتاج وإعادة إنتاج بنية الفشل، و الاستعلاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان. كما أن أغلب هذه النخب لم تعايش واقع الهامش ولم تنخرط في معاركه اليومية من أجل البقاء، ما يجعلها مفصولة عن الوجدان الشعبي العميق الذي يحرك اليوم قوى الكفاح المسلح والمجتمعات المهمشة وسيرورة وتطور وعيهم وتجلي اشواقهم لسودان جديد.
بالمقابل، تتقدم الأغلبية الاجتماعية والسياسية من أبناء وبنات مناطق الهامش—سواء في دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق أو شرق السودان—إلى مقدمة الفعل السياسي والعسكري، وهي التي تتحمل الكلفة الكبرى للحرب وتعيد صياغة الأسئلة الجوهرية المتعلقة بمستقبل السودان والدولة. هؤلاء الفاعلون لا يظهرون في خطاب “صمود” إلا بوصفهم ضحايا يحتاجون إلى الإنقاذ، لا شركاء في صناعة القرار والمصير. وهو ما يكشف عن منظور استعلائي مستبطن، يعيد إنتاج ثنائية “الإنقاذ المدني للمجتمع المتخلف”، بدلاً من الاعتراف بتغير مراكز القوة السياسية والاجتماعية.
من هنا، فإن طرح “الحياد المدني” الذي تتبناه الوثيقة، وتحاول تسويقه بوصفه موقفاً أخلاقياً سامياً، يبدو في جوهره شكلاً من أشكال التواطؤ مع عناصر من دعائم السودان القديم، الذين يسعون للحفاظ على امتيازاتهم التاريخية بأي وسيلة ممكنة. فالحياد، في لحظة تتطلب الانحياز الواضح إلى ضحايا القصف والتجويع والتهجير، هو موقف مراوغ يتهرب من الصراع ويُعيد إنتاج شروطه.
إن الموقع الذي يسعى تحالف “صمود” إلى احتلاله، بوصفه محوراً وسطياً بين القوى المتحاربة من جهة، وواجهة تفاوضية أمام المجتمعين الإقليمي والدولي من جهة أخرى، لا يستند إلى أي أساس ميداني أو شرعية ثورية. إنه طموح غير مؤسس، يكشف عن ذهنية نخبوية مألوفة في تاريخ السياسة السودانية، تسعى دائماً إلى لعب دور “السمسار السياسي” الذي ينطق باسم قوى لا يمثلها، ويقدّم نفسه بديلاً للواقع دون أن يملك أدوات الفعل أو مقومات المشروعية.
ففي القسم المعنون بـ”الوسائل والآليات لتحقيق الأهداف”، يطرح تحالف “صمود” ثلاث آليات للتحرك السياسي، جميعها تؤكد هذه النزعة الوصائية التي اعتادت النخب المركزية من خلالها تجاوز الإرادة الشعبية، ومصادرة موقع الفاعلين الحقيقيين على الأرض. أول هذه الآليات هي “التواصل مع القوى السياسية والمدنية والاجتماعية والنقابية لموقف موحد لإنهاء الحرب”، عبر ما تسميه “بناء جبهة مدنية عريضة”، تضم “القوى الثورية والحول الديمقراطي التي وقفت ضد انقلاب 25 أكتوبر 2021 وحرب 15 أبريل 2023”. لكن الوثيقة تتجاهل بالكامل واقع أن موازين القوى اليوم لم تعد بيد هذه الكيانات المدنية التي أضعفها التردد والانقسام، بل بيد تحالفات جديدة صاعدة – مثل “تحالف تأسيس” – تمتلك الوعي الثوري والوزن الشعبي والعسكري والسياسي الفعلي، وتطرح رؤية تأسيسية متكاملة لبناء الدولة على أنقاض مشروع السودان القديم.
أما الآلية الثانية المقترحة، وهي “مائدة حوار سوداني– سوداني”، فلا تختلف في جوهرها عن محاولات سابقة فاشلة أدارتها نفس النخب، وانتهت إلى إعادة تدوير الأزمة لا تفكيكها. الدعوة للحوار دون الاعتراف بأنّ أطراف الصراع الحقيقيين اليوم هم المهمشون الذين حملوا السلاح دفاعاً عن قضاياهم، ودون الإقرار بشرعية مطلب تقرير المصير، العلمانية، والعدالة التاريخية وبقية المبادئ فوق الدستورية ليست سوى تكرار لسلوك الوصاية القديم: إقصاء الهامش من طاولة الحل، وتمثيله رمزياً دون منح أدوات القرار.
أما الآلية الثالثة، “التحرك الإقليمي والدولي”، فهي تكرّس منطق الاستجداء الخارجي والاعتماد على أدوات المجتمع الدولي، دون أن تبني على حركة جماهيرية داخلية أو تحالفات تغيير جذرية. وهذا ما يؤكد مجدداً أن “صمود” لا يملك تصوراً تأسيسياً، بل يعيد إنتاج خطاب وظيفي نيوليبرالي لا يرى في الدولة سوى بنية يمكن ترميمها بالمساعدات والمؤتمرات وإعادة الإعمار، متجاهلاً أن الأزمة السودانية هي أزمة تكوين تاريخي وهوية سياسية وشرعية.
إن هذا التجاوز المتعمد لتحالفات كبرى وفاعلة – كـ”تحالف تأسيس”- الذي يجمع بين قوى سياسية ومسلحة وقيادات مجتمعية من الهامش، ويطرح مشروعاً متكاملاً يتأسس على العلمانية، وتقرير المصير، والعدالة التاريخية، وبناء جيش جديد، ليس مجرد تجاهل تكتيكي، بل هو استمرارية لسلوك النخب المركزية عبر تاريخ السودان: نفي الآخر، اختزال التغيير في واجهات بيروقراطية، واحتكار الحق في رسم المسارات نيابة عن الجميع. هكذا يتم تزييف طبيعة الصراع، وتسويف جذوره البنيوية، وتحويل لحظة التأسيس إلى مناورة انتقالية أخرى تخدم ذات الامتيازات.
لكن الواقع هذه المرة قد تجاوز هذه النخب: لم يعد التغيير في حاجة لانتظار إملاءاتها، ولم يعد المستقبل مرهوناً برضاها أو صيغها التفاوضية. فالصراع اليوم لا يدور في مكاتب الخرطوم، بل في جبال النوبة ودارفور ومدن المقاومة المنهكة والجريئة. ولأول مرة، بات واضحاً أن الحل لن يأتي من المركز، ولا من الذين فشلوا في بناء الدولة بعد الاستقلال، بل من قوى صنعت المعنى والتضحية، وترسم اليوم خريطة السودان الجديد بدمها وصبرها.
ولذلك، فإن محاولات “صمود” للظهور كبديل سياسي ووسيط حيادي هي محاولات متأخرة، لا تنبع من الواقع بل من إرث التسلط الرمزي. أما الحقيقة فهي أن زمن الوساطات النخبوية قد ولّى، وأن التاريخ لا يرحم من يتأخر عن لحظة التأسيس الجذري.
وعليه، فإن الوثيقة في بنيتها الحالية تبدو أقرب إلى بيان نخبوي/بيروقراطي، يعيد تدوير مفاهيم الفترات الانتقالية الفاشلة، ويتجاهل حقيقة أن السودان اليوم يمر بلحظة تأسيسية لا يمكن مواجهتها إلا عبر تحالف جذري جديد، يتجاوز الثنائية القديمة بين المركز والأطراف، ويؤسس لدولة متعددة، علمانية، عادلة، ترتكز على الاعتراف، لا على التمثيل الرمزي أو التوسط البيروقراطي.
ودعنا نناقش بعض النقاط:
أولاً: الوهم الإصلاحي في مواجهة لحظة التأسيس: كيف تتجاهل وثيقة صمود جذور الانهيار ومطلب التغيير الجذري:
تشكل وثيقة “صمود” نموذجاً كلاسيكياً لإعادة إنتاج خطاب انتقالي محافظ يتجنب مواجهة المعضلات البنيوية التي فجّرت الدولة السودانية واوصلتها الي ماهي عليه، وتتهرب من الاعتراف بواقع الحرب بوصفها تعبيراً عن انهيار العقد الاجتماعي القديم برمته، وصراعاً مفتوحاً بين مشروعين متناقضين: مشروع تأسيس دولة جديدة على أنقاض دولة النخبة، مقابل مشروع ترميم الانظمة القديمة تحت شعارات وحدة زائفة وسلام غير مستدام.
ففي الوقت الذي يطرح فيه تحالف “تأسيس” رؤية تأسيسية جذرية ترتكز على مفاهيم جديدة للدولة والهوية والمواطنة والعلاقة بين المركز والهامش، تكتفي وثيقة “صمود” باستدعاء سردية الدولة القديمة عبر عبارات عامة مثل “وحدة السودان” و”نبذ خطاب الكراهية”، وتدعي أن مقولاتها هذه تسعى لتأسيس وطن منصف للجميع، وهو ادعاء على جاذبيته يتسم بكثير من التسويف لمعنى التأسيس الحقيقي وذي المعني لكل السودانيين. وفوق ذلك، تتجاهل “صمود” المكونات الحقيقية للصراع: العنف المُأسس، التهميش الهيكلي، وإنكار التنوع كقاعدة تأسيسية للدولة.
ومن خلال مراجعة تاريخ النخب السياسية في السودان، يتضح أن أغلب مشاريع “الوحدة” و”السلام” التي طرحتها القوى المدنية المركزية منذ الاستقلال قد خضعت لمنطق الإقصاء الرمزي والسياسي للمهمشين، وجرى توظيفها في الغالب لشرعنة هيمنة المركز لا لتقويضها. ومثلما أخفقت اتفاقيات الدوحة وأديس أبابا وجوبا في بناء دولة عادلة، فإن تكرار نفس مفرداتها في وثيقة “صمود” يكشف عن فشل في اجتراح خطاب جديد يتناسب مع اللحظة التأسيسية. بل إن الوثيقة، بدلاً من الجرأة والمباشرة في تسمية الجرم و المجرم، أو الاعتراف بحق تقرير المصير كحق ديمقراطي، أو الاعتراف بدور الكفاح المسلح في تغيير المعادلة، تعود إلى لغة إنشائية فضفاضة لا تصلح إلا لتدوير الأزمة.
بهذا المعنى، تغدو وثيقة “صمود” تمثيلاً متكرراً لعجز النخبة المدنية عن مراكمة أي مشروع تأسيسي بديل، وتكشف بوضوح عن استمرارية ذهنية نخبوية مركزية تنكر التغيير وتخشى الفعل الثوري المنتج من خارجها، في حين أن الواقع يقتضي الاعتراف الصريح بأن السودان يعيش مخاض تأسيس دولة جديدة، لا لحظة إصلاح جزئي أو تسوية نخبوية.
ثانياً: إنكار حق تقرير المصير: تفادي مواجهة الجذر البنيوي للأزمة السودانية:
يُعد غياب الاعتراف الصريح بحق تقرير المصير من أكثر الثغرات فداحة في وثيقة “صمود”، بل ويكشف عن تناقض جوهري بين خطابها المعلن حول “معالجة تهميش تاريخي” وبين غياب أي التزام واضح بإعادة بناء العلاقة بين المركز والهامش على أساس المساواة والاعتراف. فالوثيقة، عبر هذا التغافل، تنفي فعلياً أحد أكثر الحقوق أصالة في القانون الدولي، والمكرّس في نصوص واضحة كالمادة (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد المقابل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، والتي نصّت بوضوح على أن “لكافة الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها”، وأنه يحق لها “تحديد وضعها السياسي بحرية.”
في السياق السوداني، لم يكن هذا الحق مجرد بند قانوني، بل شكّل ركيزة الوعي السياسي التحرري لدى شعوب الهامش- من دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى شرق السودان- التي خاضت صراعات طويلة دفاعاً عن كرامتها، وعن حقها في أن تكون شريكاً أصيلاً لا مجرد تابع في تحديد مستقبل البلاد. فكيف يمكن لتحالف يدّعي تمثيل قوى التغيير أن يتجاوز هذا المطلب الجوهري، وأن يصمت تماماً عن قضية تشكّل عتبة ضرورية للعدالة وإعادة توزيع السلطة السياسية؟
إن تغييب حق تقرير المصير من وثيقة “صمود” لا يعكس فقط إخفاقاً مفاهيمياً أو تقنياً، بل يُعيد إنتاج بنية الدولة المركزية ذاتها التي ثارت ضدها شعوب السودان. إنه استمرار لعقلية الوصاية المركزية التي ترى في نفسها الممثل الشرعي الوحيد، وتمنح نخبة بعينها سلطة التفكير والقرار نيابة عن ملايين السودانيين. وهذا النمط من التفكير هو ما قاد، تاريخيًا، إلى فشل كافة مشاريع “الوحدة الوطنية” المفروضة بالقوة أو بالرمزية، بدءًا من اتفاقيات ما بعد الاستقلال، مرورًا باتفاقية نيفاشا (2005)، ووصولاً إلى اتفاق جوبا (2020)، والتي تجاهلت جذور التعدد القومي، وفشلت في بناء دولة قائمة على الإرادة الحرة والمساواة في السيادة.
في المقابل، فإن ميثاق “تأسيس” يقرّ بوضوح بحق تقرير المصير بوصفه من المبادئ فوق الدستورية التي لا تخضع للمساومة. بل ويؤسس عليه رؤيته السياسية، من خلال
– الاعتراف بالتنوع القومي والثقافي والديني كمكوّن تأسيسي غير قابل للمصادرة؛
– إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة اللامركزية السياسية والاقتصادية؛
– تمكين المجتمعات من إدارة شؤونها الذاتية وتقرير مصيرها بحرية، بعيداً عن هيمنة المركز
إن رفض “صمود” لهذا الحق، في لحظة تاريخية تتغير فيها موازين القوى وتتقدّم فيها مجتمعات الهامش الصفوف، هو تعبير عن إصرار على تجاهل الوقائع السياسية والاجتماعية الجديدة التي فرضتها الحرب. فالحوار حول “إعادة تأسيس الدولة” لا يمكن أن يكون جاداً أو نزيهاً إذا تم تجاوزه عن شرط الاعتراف بالشعوب كشركاء كاملي السيادة، لا كضحايا ينتظرون إنقاذاً من مركز يتحدث باسمهم.
بكلمات أوضح: إن من يتحدث عن “معالجة التهميش” بينما ينكر أدوات التحرر التي تطالب بها الشعوب المهمشة، لا يسعى إلى حل الأزمة، بل إلى إعادة إنتاجها بمفردات ناعمة ولغة حقوقية فارغة. فالتغيير الجذري لا يُبنى على خطاب وحدوي رمزي، بل على الاعتراف الحقيقي بحق تقرير المصير بوصفه قاعدة أخلاقية ودستورية لميلاد سودان جديد.
نواصل في الجزء الثاني.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)