رأي

السفارات السودانية بالخارج: منابر دبلوماسية أم منصات لدعم النظام البائد؟

عمار سعيد

في الوقت الذي يعيش فيه السودان واحدة من أعقد مراحله السياسية والإنسانية، تتخذ السفارات السودانية في الخارج مساراً مغايراً تماماً لدورها المفترض كواجهات تمثل الدولة والمواطن، لا النظام والانقلاب. إذ تتزايد المؤشرات على تحول هذه البعثات الدبلوماسية إلى منصات لدعم فلول النظام البائد، وتنسيق أنشطتهم في أوساط الجاليات السودانية، بما يعمق من الانقسامات ويشعل الفتن، ويقوض أية جهود وطنية لبناء سودان جديد يتجاوز الحرب والانقسام.

التوظيف السياسي للسفارات: انقلاب على العمل الدبلوماسي

ما يحدث حالياً في عدد من السفارات السودانية بالخليج، ومصر، ودول أفريقية كإثيوبيا وكينيا، هو تجاوز واضح للأعراف الدبلوماسية، وضرب لقواعد المهنية عرض الحائط. فقد تحولت هذه السفارات، في ظل سيطرة الحكومة الانقلابية في بورتسودان، إلى أدوات أمنية لخدمة أجندات سياسية ضيقة، يتم عبرها التضييق على المعارضين، والتشجيع على استقطاب الجاليات حول مشروع النظام البائد.

العديد من الشهادات تشير إلى قيام موظفين دبلوماسيين، بتنسيق مباشر مع عناصر من فلول النظام السابق، بدعم روابط مهنية ومناطقية موالية لهم، بغرض الاستحواذ على تشكيلات الجاليات السودانية، وتمكينها من التحدث باسم السودانيين في تلك الدول. هذا التمكين يجري أحياناً بالتنسيق مع جهاز شؤون المغتربين، ومؤسسات انشأتها السلطة الانقلابية في بورتسودان لتكريس نفوذها الخارجي.

أمثلة صارخة على الانحياز السياسي

في إحدى دول الخليج، لوحظ نشاط محموم لسفارة السودان لدعم جسم نقابي موازٍ لاتحاد الأطباء السودانيين، بعد أن تبين أن الاتحاد المنتخب يدين بالولاء للثورة ويرفض الحرب، ما أدى إلى تدخل مباشر من السفارة لعرقلة نشاطه والاعتراف بجسم بديل يضم عناصر من الأمن الشعبي والإسلاميين.

وفي دولة أفريقية مجاورة، أشرف السفير السوداني على اجتماعات مع روابط أبناء دارفور وكردفان لإقناعهم بتأييد الخطاب الرسمي المعادي لقوات الدعم السريع، في حين جرى التهديد الضمني بسحب الجوازات أو عرقلة المعاملات القنصلية عن كل من يشارك في أنشطة معارضة للحرب.

وفي مصر، حيث يوجد أكبر تجمع للسودانيين في الخارج، ظهرت بوادر تواطؤ من السفارة مع شخصيات تنتمي للنظام السابق في تشكيل ما سُمي بـ”هيئة تنسيق الجالية”، وسط استبعاد متعمد لأصوات معارضة، ومراقبة مكثفة للنشطاء الذين ينظمون فعاليات إنسانية وإعلامية داعمة للسلام.

التمييز القنصلي: ابتزاز بالجنسية

اللافت أن هذه الممارسات لم تقتصر على التنسيق السياسي فحسب، بل وصلت إلى حد منع السودانيين – لا سيما من النازحين واللاجئين الجدد – من الحصول على جوازاتهم أو أوراقهم الثبوتية، وفرض تعقيدات بيروقراطية مهينة، مما يمثل خرقاً واضحاً للدستور السوداني، وللمواثيق الدولية التي تكفل لكل إنسان الحق في أوراقه الرسمية دون تمييز.

تنقلات مشبوهة وتعيينات بلا معايير

تزامناً مع هذه التحولات، شهدت وزارة الخارجية السودانية في عهد الانقلاب موجة من التنقلات والإقالات والتعيينات غير المفهومة. فقد أُبعد بعض الدبلوماسيين المعروفين بمواقفهم الوطنية أو حيادهم، في حين تم تثبيت آخرين من المقربين للنظام البائد في مناصب حساسة. وكل ذلك جرى بلا سياسة واضحة أو شفافية، بل بدا كأنه عملية إعادة هيكلة لخدمة مشروع التمكين من جديد، ولكن هذه المرة بزي دبلوماسي.

السؤال الكبير: أين رئيس الوزراء؟

كل هذا يطرح تساؤلاً مشروعاً: هل يدرك رئيس الوزراء المعيّن في بورتسودان حجم ما يجري في الخارج؟ وهل يمتلك الإرادة والجرأة الكافية لفتح هذا الملف الحساس، أم سيكتفي بالتنقل بين أزقة بورتسودان، مطلقاً تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن استمرار هذا التمكين في السفارات يعني أن السودان الرسمي أصبح خارج السيطرة، وأن الثورة المضادة تحقق اختراقاتها في الخارج بغطاء دبلوماسي خطير.

ختاماً: لا حياد في معركة الكرامة

إن ما يجري في سفارات السودان بالخارج هو تكرار لذات أدوات القمع والاستبداد التي ثار عليها السودانيون. وحين تصبح السفارات أداة لفرض الانحياز السياسي، بدل أن تكون حامية لحقوق المواطن، فإنها تتحول إلى جزء من الأزمة لا من الحل. على قوى الثورة أن تتحرك عاجلاً لرصد هذه الانتهاكات، وفضحها، والضغط من أجل إصلاح شامل في السلك الدبلوماسي يعيد له هيبته واستقلاليته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!