ثمانون في المئة من شباب القضارف يتعاطون المخدرات؟! تماهي حكم الأمر الواقع مع الجريمة
منال علي محمود

في تصريح رسمي تناقلته الصحف المحلية، قال اللواء شرطة حقوقي خلف الله عبد الموجود، مدير شرطة ولاية القضارف، إن أكثر من (80%) من شباب ولايته يتعاطون المخدرات.
تصريح صادم لم يأتِ في سياق مؤتمر لمكافحة الظاهرة، ولا مصحوبًا بخطة طوارئ، بل ورد كمعلومة عابرة، تكشف حجم الانهيار، دون أن تُحدث أي اهتزاز في كيان الدولة أو تحرك في ضميرها الأمني.
إرث الدولة الإسلاموية
لم تبدأ أزمة المخدرات في السودان فجأة، بل هي نتيجة مباشرة لإرث ثقيل زرعته الدولة الإسلاموية عبر عقود من التمكين والفساد والتغاضي المقصود عن الانهيار الاجتماعي. منذ التسعينيات، تسللت المخدرات إلى الجامعات والمدارس وأحياء المدن، بينما كانت أجهزة النظام منشغلة بتضييق الحريات، ومطاردة المثقفين، وتشويه الوعي العام باسم الفضيلة.
في الوقت الذي كانت تُجلد فيه الفتيات بسبب (الزي الفاضح)، كانت شحنات الحشيش تتسلل عبر الحدود، وربما بعلم الجهات ذاتها التي تدّعي محاربة الفساد الأخلاقي. خُصصت الميزانيات لمحاربة الفن والإبداع، وأُهملت المدارس ومراكز العلاج والتوعية، فكان الفراغ كبيرًا، والخراب أوسع.
لم يكن السماح بتفشي المخدرات خطأً عفويًا، بل سياسة غير معلنة لإسكات الأجيال القادمة، عبر تدمير وعيها، وعزلها عن أي إمكانية للفعل أو الرفض.
المطار العسكري وشحنات السم
ليست الحكاية محصورة في الأحياء والمقاهي، بل امتدت لتصل إلى المطارات العسكرية. طائرة محملة بالمخدرات هبطت في مطار تابع للجيش، وليس مطارًا مدنيًا مفتوحًا للعامة. المتهم الرئيسي في البلاغ لم يُقدَّم للعدالة، بل أصبح اليوم أحد المشاركين في ما تُسمى (معركة الكرامة).
هذه الواقعة لا يمكن تصنيفها كحادث منفصل، بل هي دليل على اختراق منظم، أو على الأقل تواطؤ صامت من داخل مؤسسات يفترض بها أن تكون خط الدفاع الأول عن الوطن. كيف تمر شحنة مخدرات عبر مطار عسكري من دون علم الاستخبارات؟ ومن يملك القدرة على تحريك مثل هذه العملية دون مساءلة؟
ما يحدث يُظهر بوضوح أن هناك من يتولى حماية شبكات التهريب، أو على الأقل يغض الطرف عنها، وأن المخدرات في هذا السياق ليست مجرد سلعة، بل أداة من أدوات الحرب.
التصريح الباهت وخفة الدولة
أن يخرج مسؤول أمني كبير مثل مدير شرطة ولاية ويعلن رقمًا بهذا الحجم، دون أن يقدّم خطة، أو يعلن حالة طوارئ، أو حتى يستقيل، فذلك ليس مجرد استهتار، بل مشاركة في الجريمة.
تصريح بهذا الثقل، كان يتطلب إما أن يشتغل شغلته بجد، أو على الأقل أن يستعين بصديق يعرف ما يُقال في مثل هذه المواقف، أو يأتيه بتجربة من دولة مجاورة تملك الحد الأدنى من الاحتراف في إدارة الأزمات.
لكن بدلًا من ذلك، مر التصريح كأنه مزحة باهتة، بلا أي معلومة عن الأسباب، أو الجهات المروّجة، أو عن السياسات المتبعة لمجابهة الكارثة.
وكأن المطلوب من المواطن أن يعتاد هذا الواقع، ويقبله كجزء من (الطبيعة الجديدة) للحياة.
لا توجد نية للمواجهة الجادة، ولا حتى لاعتراف حقيقي بالمشكلة. وربما يكون الحل، وفق منطق الحكومة، هو استدعاء (فكي) لقراءة آيات على الشباب، كما فُعل سابقًا حين دعا رئيس وزراء سابق رجل دين ليقرأ الرقية على مولد كهربائي احترق.
من المستفيد من تحطيم وعي الشباب؟
لا تُروَّج المخدرات في بلاد مثل السودان بمعزل عن الفاعلين السياسيين والاقتصاديين. هناك من يغذي السوق، من يربح منه، ومن يستفيد من إبقاء الشباب في هذه الدوامة المظلمة. ليس من مصلحة النظام القائم أن يصحو الجيل الجديد، ولا أن يطرح أسئلة وجودية عن مصير وطنه.
في ظل انعدام فرص العمل، وانهيار مؤسسات التعليم، وتحطيم الثقافة الوطنية، تصبح المخدرات وسيلة للهرب… والهروب في ذاته سياسة. من الأسهل دائمًا أن تواجه شعبًا مخدرًا، من أن تواجه شعبًا مستنيرًا غاضبًا. ولذلك، فإن ما يجري ليس مجرد إهمال، بل هو تواطؤ مقصود وممنهج.
الخراب الذي لم يعد مستترًا
ثمانون بالمئة من شباب ولاية سودانية يتعاطون المخدرات؟ ليست هذه نسبة، بل بيان نعي لأجيال بأكملها. بيان لم يكتبه الأطباء، بل كتبته الدولة نفسها، بصمتها وتواطؤها وإدارتها غير المرئية لخراب متعمد.
إن الأخطر من تعاطي المخدرات، هو أن يتحول الأمر إلى ظاهرة عادية، تُعامل كجزء من تفاصيل الحياة اليومية، بلا مساءلة، ولا غضب، ولا خطة. في هذه اللحظة، تصبح الجريمة جماعية، ويصبح الصمت مشاركة، وتتحول الدولة إلى شريك في الإبادة النفسية لجيل كامل.
من واقع ولاية إلى مصير وطن
القضارف ليست استثناء، بل مرآة لما يحدث في باقي السودان. المخدرات، مثل السلاح، لم تعد أدوات فردية للجريمة، بل أصبحت جزءًا من منظومة تحكم بالفوضى. دولة فقدت مشروعها، وتحالفت مع الخراب، تسكت عن الجريمة أو تديرها، ثم تكتفي بالإحصاء والتبرير. وإن ظل هذا الصمت مستمرًا، فلن تكون نسبة الثمانين في المئة نهاية المطاف، بل بداية الانهيار الكامل لوطن لم يعد يُدار، بل يُستهلك من الداخل.
manal002002@gmail.com