رأي

أضابير التاريخ تقول إن التحولات الكبرى في السودان تبدأ من الغرب دائمًا .. هل لجأ الدعم السريع بتكتيكات المهدية؟

الخبير العسكري مجدي شروني

لطالما كان الغرب السوداني مسرحًا لتحولات حاسمة في تاريخ البلاد، فمنه انطلقت شرارة الثورة المهدية، وفيه وُضعت نهايات إمبراطوريات وبدايات أخرى. واليوم، وبينما تشتعل نيران الحرب مجددًا، تطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة تكتيكات “قوات الدعم السريع” وهل استعارت، بقصد أو بدونه، من تجارب الحركات التاريخية الكبرى، خاصة الثورة المهدية التي تُعد النموذج الأبرز لحرب غير نظامية انطلقت من ذات الجغرافيا.

أولًا: سيناريو الانقضاض على جيش هيكس باشا في أدغال كردفان

في العام 1883، سقط جيش هيكس باشا في أدغال كردفان في واحدة من أعنف المعارك التي رسّخت صعود المهدية. استخدم الإمام المهدي حينها تكتيك الإغراق بالمفاجأة، والتضاريس الوعرة، وتفكيك جيش مدجج لا يعرف الأرض. إن قارنا ذلك بما جرى في بداية المواجهة بين الدعم السريع والجيش السوداني، نجد أن الدعم استثمر في عنصري المباغتة والتضاريس، حيث هاجم المراكز الرئيسية في العاصمة دفعة واحدة، ثم انسحب إلى جغرافيا مألوفة في الغرب، خاصة دارفور، لتُعاد ذات التكتيكات التي أنهكت جيوشًا أكبر في الماضي. الفارق هنا أن المعركة لم تكن في أدغال، بل في مدن مأهولة، ما أضفى طابعًا أكثر تعقيدًا ودموية على المشهد.

 

ثانيًا: الأرض الصديقة.. من السلطان علي دينار إلى الفكي علي الميراوي

المهدية استفادت من حاضنة اجتماعية ودينية واسعة في الغرب السوداني، ووجدت الأرض الصديقة حاضنة للتمدد وإعادة التمركز. على ذات النسق، تجد قوات الدعم السريع في مناطق دارفور وكردفان بيئة حاضنة، بحكم التكوين القبلي والعشائري لبعض قياداتها، واستثمرت في تلك الصلات لتأمين خط الإمداد، وجمع المعلومات، وتجنيد الموارد البشرية. كما أن نموذج السلطان علي دينار – الذي رفض الاستعمار حتى نهايته – أعاد تصديره الدعم السريع بشكل مقلوب: من قائد تاريخي رافض للهيمنة الأجنبية إلى فاعل عسكري يسعى للهيمنة على المركز من أطرافه.

 

ثالثًا: ضرب خطوط الإمداد الحكومي

نجح الإمام المهدي في تقطيع أوصال جيش غردون في الخرطوم عبر استنزاف خطوط الإمداد النيلية، ما أدى إلى عزل العاصمة وسقوطها لاحقًا. بالمقابل، اعتمد الدعم السريع على تكتيك مزدوج: ضرب خطوط الإمداد المادي والمعنوي للجيش السوداني، عبر استهداف مراكز القيادة، والبنى التحتية، ومخازن السلاح. بينما تميز الدعم بخطوط إمداد خارجية وإقليمية مستقرة نسبيًا، مستفيدًا من سيطرته على المعابر الحدودية في الغرب والجنوب، والتي استخدمها لتغذية قواته بموارد السلاح والعتاد وحتى الأفراد.

 

رابعًا: نموذج الأمواج البشرية.. من إثيوبيا إلى الخرطوم

اتبعت جيوش الحبشة، خاصة في معركة “عدوة” ضد الإيطاليين، أسلوب الموجات البشرية المنظمة لاستنزاف العدو. استخدمت المهدية ذات التكتيك في بداياتها، واليوم، يستثمر الدعم السريع هذا النموذج بتعديلاته الحديثة: زحف من الأطراف، ضربات متتالية ومنهكة، والاستفادة من الفائض البشري القادم من مناطق الحاضنة. يعزز ذلك سعيه لتجفيف خزانات الإمداد البشري للجيش، واستنزاف طاقته في معارك متفرقة ومتزامنة، تؤدي في المحصلة إلى إنهاك الجبهة النظامية وإعادة تشكيل ميزان القوى.

 

خامسًا: الفاشر.. ركيزة الظهر وأداة الانتقال شمالًا

في كل الحروب، تأمين “الظهر” ضرورة لبناء أي استراتيجية تقدم. أدرك الدعم السريع هذا الدرس مبكرًا، فجعل من السيطرة على مدينة الفاشر – العاصمة التاريخية لدارفور – هدفًا رئيسيًا. إنها نقطة استراتيجية ليس فقط بسبب موقعها، بل لأنها تمثل خط دفاع متقدم، ونقطة ارتكاز لوجستية. بإحكام السيطرة عليها، يمكن إرسال الأرتال البشرية صوب الشمال والخرطوم، دون الخوف من التهديد الخلفي. كما أن الفاشر تمنح الدعم السريع رمزية تاريخية، تربط حركته بصدى المهدية وسلطنة دارفور، وتعيد تشكيل ذاكرة الصراع وفق ملامح قديمة بثوب جديد.

خاتمة:

قد قرأت قوات الدعم السريع كتب التاريخ العسكري للمهدية، واستعادت تكتيكات ثبتت فعاليتها في جغرافيا السودان القاسية. وبما أن التاريخ لا يعيد نفسه بنفس التفاصيل بل بصور جديدة، فإن ما نشهده اليوم هو إعادة صياغة لصراع المركز والهامش، ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين. الغرب لا يزال شرارة التحولات، وميدان الصراع الحقيقي ليس فقط في الخرطوم، بل في القدرة على قراءة الجغرافيا والتاريخ معًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!