رأي

محاورة مع زميلة في طريق المشي اليومي علي شاطي نهر التيبر في روما

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

في عالم بدأ يتحرر من قبضة الطغاة الدينيين والعسكريين، تبرز ملامح واقع جديد تتشكل فيه موازين القوى على نحو غير مسبوق. سقوط الملالي في طهران، والضعف المتزايد لأوليغارشيات الحكم مثل بوتين في روسيا، يمثلان أكثر من مجرد نهاية لأنظمة مستبدة؛ إنهما إشارة لتحول بنيوي عالمي تتساقط فيه أقنعة الوصاية، وتنهض فيه الشعوب بسردياتها الخاصة.

لقد كانت الحروب الإسرائيلية على غزة دائمًا امتدادًا لسياسات الهيمنة الإقليمية. إلا أن حرب ٢٠٢٤ – ٢٠٢٥ كانت مختلفة. فلأول مرة، واجهت إسرائيل ليس فقط مقاومة مسلحة، بل أيضًا تحولًا عميقًا في المزاج الدولي. تصاعد الأصوات داخل الولايات المتحدة، وأوروبا، وجنوب الكرة الأرضية، لرفض المجازر والتمييز، عرّى رواية الاحتلال وأعاد الاعتبار لفلسطين كقضية كونية للعدالة. لم يعد ممكنًا لإسرائيل أن تستمر في سياسة “الردع الأبدي”، لأن العالم يتغير، والسرديات لم تعد حكرًا على الأقوياء.

في أوكرانيا، وبعد سنوات من حرب الاستنزاف، تتزايد المؤشرات على اقتراب التسوية، لا بانتصار طرف على آخر، بل بانهاك الجميع. فقد أظهرت الحرب حدود القوة العسكرية التقليدية، وأكدت أن عصر الغزوات الطويلة قد ولى. ما بدا في البداية صراعًا بين الغرب وروسيا، تحول تدريجيًا إلى لحظة اختبار للنظام الدولي نفسه. بدأنا نشهد تراجع مركزية واشنطن وموسكو، وصعود أدوار بديلة من دول مثل الهند، جنوب أفريقيا، وتركيا، ما يبشّر بعالم أكثر تعددية وإن كان أقل استقرارًا.

 

أما في العالم الإسلامي، فقد تلقى الإسلام السياسي ضربة وجودية. ففي السودان، سقطت جمهورية التمكين التي بنت شرعيتها على الشعارات الدينية، وانهارت تحت ثقل الفساد، والعزلة، والمقاومة الشعبية. تظاهرات ديسمبر ٢٠١٨، وانتفاضة ٣٠ يونيو، وحركة لجان المقاومة، كشفت حجم الرفض الشعبي، ليس فقط للعسكر، بل لكل من تاجر بالدين لتبرير القمع. وفي تونس، عاد المجتمع المدني ليصوغ مقاومة سلمية لانقلاب قيس سعيّد، رغم تراجع الأحزاب.

هذا التحول لا يعني نهاية الدين في الحياة العامة، بل يعني استعادة الدين من فكي الاستبداد. لم يعد الناس يثقون بمن يوظف العقيدة في إدارة الدولة، ويرتكب باسم الله جرائم الدولة العميقة. وفي أفغانستان، ورغم عودة طالبان، فشلت في انتزاع شرعية دولية أو تحقيق استقرار اقتصادي، بل باتت عاجزة عن إدارة مجتمع شاب يتطلع للمعرفة والانفتاح.

 

تلعب إيران دورًا محوريًا في سوق الطاقة العالمي باعتبارها من كبار منتجي ومصدّري النفط والغاز. ورغم العقوبات الأمريكية، فإنها تواصل تصدير جزء من نفطها بطرق غير مباشرة إلى الأسواق الآسيوية والأوروبية، ما يجعلها فاعلًا لا يمكن تجاوزه في معادلات الطاقة، حتى بالنسبة لدول مثل الولايات المتحدة التي لا تستورد منها مباشرة. هذا التداخل يؤكد أن المواجهات الجيوسياسية معها ليست فقط حول الملف النووي، بل حول النفوذ الاقتصادي الاستراتيجي.

ورغم أن إسرائيل تحصر حروبها في غزة ضمن سياق أمني داخلي، فإن آثار حرب ٢٠٢٤–٢٠٢٥ كانت غير مسبوقة. تكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر بمليارات الدولارات، وانهارت قطاعات السياحة والتكنولوجيا، واضطر البنك المركزي للتدخل لوقف تدهور العملة. كما كشفت الصواريخ عن ضعف في البنية التحتية المدنية، وأثارت انقسامًا سياسيًا داخليًا حادًا، بما في ذلك احتجاجات من داخل الجيش نفسه. إنها لحظة اهتزاز داخلية عميقة تمس صورة الدولة نفسها.

لكن السؤال الجوهري يبقى: ماذا يعني هذا التحول للمهمشين والفقراء؟ في أفريقيا، قد تتيح نهاية هيمنة الملالي والبوتينيين فرصة لبناء أنظمة أكثر عدالة وشمولًا، حيث تدخل النساء والشباب والمزارعون إلى مركز القرار، لا أن يُتركوا ضحايا لصفقات النخب. وفي أوروبا، تعيد الأزمات طرح قضايا المهاجرين والفقراء من أصول غير أوروبية، وتكشف أن العدالة لا تتحقق بالأمن وحده، بل بالاعتراف بالتعدد والمساواة الاجتماعية.

 

السردية هنا ليست فقط قصة تُروى، بل هي أداة تفكيك، وأسلوب استعادة المعنى. السردية المضادة تنزع قدسية الزيف، وتعيد اللغة لأصحابها. إنها تمنح الضحية القدرة على تسمية الظلم، وتحرير الخيال السياسي من قبضة الطغاة.

وحين تمتلك الشعوب لغتها، تبدأ بكتابة تاريخها. وهذه بداية التأسيس الحقيقي، لا من فراغ، بل من الذاكرة. عالم بلا ملالي ولا بوتينات ليس بالضرورة عالمًا عادلًا بالكامل، لكنه عالم أكثر صدقًا في طرح الأسئلة، وأكثر انفتاحًا على تجارب الشعوب التي صبرت طويلًا وآن لها أن تصوغ حاضرها.

 

المراجع:

تقارير هيومن رايتس ووتش ٢٠٢٤؛ مقالات الجارديان عن حرب غزة؛ بيانات لجان المقاومة في السودان؛ تقارير الأمم المتحدة حول وضع حقوق الإنسان في أفغانستان؛ دراسات معهد بروكينغز عن إعادة تشكيل النظام العالمي.

 

العنوان الختامي: حين يكتب الهامش التاريخ

في زمنٍ كانت فيه الجيوش تكتب التاريخ، صار للهامش قلمه.

وفي عصرٍ كان يُروى فيه كل شيء من فوق، بدأت الحقيقة تصعد من الأسفل.

د. أحمد التيجاني سيد أحمد – عضو في تحالف تأسيس السودان | روما – ٢٢ يونيو ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!