
الحلقة الأولى: بيت زينب بيت كل للناس
كان الصباح في حيّ “القلعة” يشبه لوحة زيتية من أيام السلام. ضجيج الباعة المتجولين، صوت مؤذن المسجد القديم، وضحكات الأطفال العائدين من المخبز بأرغفة دافئة. البيوت متلاصقة كقلوب أصحابها، رغم اختلافهم في كل شيء: الدين، والعرق، واللهجة، وحتى العادات. لكنهم كانوا يتشابهون في شيء واحد: البساطة، والحب النظيف.
زينب، طفلة في الثانية عشرة، ذات ضفائر كثيفة تلمع كلما أصابها ضوء الشمس، كانت تستيقظ باكرًا لترافق جدتها “الحاجة علوية” إلى السوق، قبل أن تنطلق إلى المدرسة. تحفظ دروسها جيدًا، لكنها كانت مولعة بالرسم، تملأ جدران غرفتها برسوم لأشجار، وطيور، وأناس متشابكي الأيدي. كانت تقول لجدتها:
– “أرسمهم هكذا لأنني لا أحب الشجار يا جدتي. أريد أن يكونوا دائمًا معًا.”
في الطريق إلى السوق، كانت زينب تُسلّم على كل من تراه. عمّ “علي النصيح”، الذي يبيع الخضار أمام المسجد، يضحك ويقول:
– “صباح الخير يا دكتورة المستقبل.”
فترد عليه بابتسامتها الواسعة:
– “صباح الخير يا عمّ علي، لا تنسَ أن تحتفظ لي بحزمة بقدونس طازجة!”
الناس في حي القلعة لم يكونوا مثاليين، لكنهم كانوا يعرفون كيف يختلفون بأمان. المقهى يجمع الكل، والفرح لا يُقصي أحدًا. حتى الفقراء كانت لهم كرامة يُحسَدون عليها، وكان الغريب يجد مكانه بينهم بلا عناء.
ذات صباح، وفي فناء المدرسة، جلست زينب إلى جوار صديقتها “مريم”، التي تنتمي لعائلة من اقليم آخر. لم يكن ذلك يهمّ أحدًا. كانتا تتقاسمان السندويشات، والأحلام الصغيرة.
– “ماذا سترسمين اليوم؟” سألت مريم.
– “سأرسم بيتًا كبيرًا، فيه غرف لكل الناس.”
ضحكتا معًا، ثم عادتا إلى متابعة شرح المعلمة.
في المساء، جلست زينب مع جدتها على حصير أمام البيت، يطويان ملابس الغسيل ويشاهدان الأولاد يلعبون في الزقاق. رائحة الشاي بالنعناع تعبق في الجو، وصوت الراديو ينبعث من بيت الجيران؛
– “هنا راديو المدينة، نبدأ النشرة بأحداث مؤسفة في حيّ المطار…”
خفضت الحاجة علوية الصوت، تمتمت:
– “كلام الفتنة ما بندخلوا في بيوتنا.”
لكن الشر كان يقترب، يتسلل في صمت، عبر الهواتف، ومنشورات الفيسبوك، والكلمات السامة التي بدأت تنزلق في جلسات الناس. لم يكن أحد ينتبه… حتى أولئك الذين يعرفون خطورته، ظنوا أن الحيّ محصّن بما يكفي.
في ذلك المساء، رسمت زينب لوحة جديدة. بيتٌ كبير، له بابان، وأطفال يلعبون أمامه. على الجدار كتبت:
“هنا نعيش معًا… لا فرق بيننا.”
لم تكن تدري أن تلك ستكون آخر لوحة ترسمها بطمأنينة.