
الذين تابعوا خطاب حميدتي الاخير قد يكونوا سمعوا القائد، لكنهم لم يقرأوا الموقع.
في عالم الصراع، حين لا يعلن المكان، يصبح هو الرسالة.
قال حميدتي بوضوح (مكاني سري).
والسر هنا ليس احترازا امنيا فقط، بل اختيار سياسي مقصود؛ ان يتحدث من خارج المألوف، ومن محيط جغرافي تتقاطع فيه الخرائط والرسائل: ليبيا، تشاد، دارفور… تلك المساحات التي لا تعترف بالحدود، بل تتحرك فيها المصالح عبر المسارات القديمة – الذهب، البشر، والتفاهمات.
في ذلك الموقع غير المعلن، اراد الرجل ان يبلغ عدة اطراف بجملة واحدة:
(انا هنا… حيث كنت نافعًا لكم، وحيث لا تزالون بحاجة لي).
الموقع كموقف سياسي
عدم اعلان الموقع لا يضعف الرسالة، بل يعزز فكرة ان وجوده مرن، ومربوط بملف اقليمي يتجاوز الخرطوم.
الموقع لم يكن مجرد اطلالة، بل تموضع بعناية، حيث يلتقي النفوذ غير الرسمي مع الرسائل الرسمية.
ما يجعل الخطاب اكثر وضوحا هو ان الاقليم الذي ألمح اليه القائد هو الاقليم الوحيد في السودان الذي يجاور ليبيا وتشاد ومصر في آن واحد،
وهو ما يجعل من موقعه الرمزي والجغرافي مفتاحا استراتيجيا لفهم شبكة الرسائل في خطابه.
فالرسالة التي خرجت من تلك التخوم، لم تخرج من فراغ.
خرجت من ارض تعرف كل طرق الهجرة، وكل خطوط الذهب، وكل حبال التوازن الاقليمي.
وهو بذلك لا يظهر كقائد ميداني فقط، بل كفاعل اقليمي موجود بين ثلاث دول وحده موقعه الطبيعي يجعلهم ينظرون اليه من زاوية مختلفة:
(قد لا نوافقه، لكن لا يمكن تجاهله).
(سوء الفهم) مع دولة جارة
قالها بوضوح: (حصل سوء فهم وتم تجاوزه).
العبارة ليست عرضا عاطفيا، بل اعتراف ضمني بأن هناك طرفا اقليميا كان له موقف، والآن يعاد ضبط العلاقة معه.
الطرف هذا، وان لم يسمه، واضح.
دولة لم تكن غائبة عن معادلة الخرطوم – ولا عن غرب السودان – بل كانت حاضرة بتوجساتها من تمدد الدعم السريع، وحريصة على بقاء الوضع تحت قبضة الجيش التقليدي.
وإن قرأنا الإشارة كما هي، فالمقصود هو مصر.
وسوء الفهم تم تجاوزه، تعني ببساطة:
(لم نكن على وفاق، لكننا عدنا إلى لغة التفاهم، لأنها ضرورية).
وطالما ان هذا التفاهم تم مع ابن المنطقة – لا مجرد وسيط – فهذه دلالة على الاعتراف بثقله، وفهم مكانته، وتأثيره في ديمومة العلاقات التي لم ولن تنقطع بين الجيران.
نحن امام ترسيم جديد للنفوذ غير المعلن، حيث لا تقال التحالفات صراحة، بل تقرأ من الايماءات، ومن نوع الابتسامة في النص، ومن صمت الاسم حين يمر في الخطاب.
اوروبا: حين تُقرأ الرسالة من الحدود
وإذا كان خطاب حميدتي قد حمل إشارات واضحة للجوار، فإن رسائله الابعد لم تغب عن العارفين.
فحين يفتح القائد ملف الهجرة غير النظامية، ويتحدث عن (مكافحة التهريب والاتجار بالبشر)، فهو لا يخاطب الداخل، ولا حتى دول الاقليم…
بل يخاطب بروكسل وروما وباريس وبرلين، حيث ما زال ملف السودان يُقرأ من زاوية واحدة:
هل ما زال بالامكان التعويل على احد (رجال الحدود) في كبح موجات الهجرة؟
اوروبا، التي مارست معاييرها المتعددة، تدرك ان البوابة الجنوبية – رغم كل التجاوزات – تحتاج ادارة لا مواجهة.
وفي الوقت الذي يتنامى فيه نفوذ روسيا – الشقيقة للنظام العسكري الحاكم في شرق السودان – وتترسخ فيه التفاهمات حول القاعدة البحرية في بورتسودان،
فإن اوروبا بحاجة إلى طرف آخر، يحفظ التوازن ولا يقع بالكامل في قبضة موسكو.
ولهذا، جاء خطاب حميدتي كنوع من اعادة التذكير بجدوى العلاقة السابقة، لا بل كعرضٍ جديد، مكتوب بلغة الامن والاستقرار، لا بلغة الانكسار.
اوروبا – التي لم تحسم موقفها علنًا – تُدرك ان ورقة الهجرة في يد من يُمسك بالميدان، لا من يُحسن الخطابة في المؤتمرات.
لكن اوروبا ليست وحدها التي تتابع.
فأمريكا، رغم صمتها، ليست بعيدة عن تفاصيل الملف، خصوصا وهي ترى ان ابنها – حفتر، الحامل للجنسية الامريكية – يتحرك بحذر في محيط يعج بالتقاطع الليبي السوداني.
سؤال مركزي يلوح في الأفق:
هل يستطيع حفتر أن يتجاوز بلده الثاني في ملف بالغ الحساسية كملف السودان؟
وإن كانت الإجابة (لا)، فإننا امام اعادة نظر جادة تجري في الغرف المغلقة.
ربما بسبب معلومات مؤكدة أضرت بصورة الجيش، وخصمت من رصيده الدولي في ملف النزاهة،
وهو رصيد ظلت تُراهن عليه بعض العواصم الغربية في غياب بديل (يبدو صالحا) لإدارة الانتقال.
الداخل الذي لم يُنسَ
لم يكن خطاب حميدتي للخارج فقط.
في سطوره المرتبة ورسائله المحسوبة، كان واضحا انه يُخاطب جمهوره في الداخل ايضا – ليس من موقع القوة الميدانية فقط، بل من موقع الحضور السياسي المستمر رغم الغياب الجغرافي.
الخطاب حمل تأكيدا ضمنيا بأن الرجل لا يزال ممسكا بخيوط اللعبة، وأن خروجه المؤقت لا يعني انسحابا ولا هروبا.
عبارة (انا بخير وموجود وسط اهلي) لم تكن فقط للطمأنة، بل تثبيت حضور رمزي في ذاكرة الجماهير، التي ظلت تسأل: وين حميدتي؟ هل هرب؟ هل تم احتواؤه؟
كما ان استدعاءه لعبارة (الكيزان اخطر من ابليس)، ما كان اعتباطيا ولا لغرض تنفيسي،
بل كان ردا ناعما على تصاعد خطاب الكراهية ضده من منصات الاسلاميين،
واختياره لها بدلا من اي عبارة تقليدية، اشارة لغوية ماكرة تفهمها النخبة:
(انا لا زلت قارئا جيدا للساحة، ومتابعا لكل مقال، ولكل وسم، ولكل شيفرة).
وإلى جانب هذا، لا يمكن تجاهل أن خطابه تضمّن توصيات واضحة لقواته بالانضباط واحترام المدنيين،
في وقتٍ غابت فيه هذه اللغة عن أغلب خطابات الطرف الآخر،
التي ظلت تتراوح بين التخوين والتصعيد والتجريد من الوطنية.
ما قاله حميدتي هنا لا يُقرأ بلسان المدافع،
بل بلسان من أراد أن يُرسل رسالة للداخل والخارج:
(نحن لسنا الفوضى… بل جزء من إعادة ترتيبها).
والاهم من ذلك، ان خطابه لم يحمل اي هجوم على الجيش كمؤسسة،
بل حافظ على لهجة محايدة نسبيا، مما يعكس مرونة متعمدة، وتهيئة لاحتمالات سياسية مفتوحة.
الختام: لغة الجغرافيا اقوى من الشعارات
في هذا الخطاب، اختار حميدتي ان يتكلم من حيث يُراد له ان لا يُسمع.
اختار ان يقول ما يكفي، ويواري ما يلزم، ويرسل الرسائل لاطراف مختلفة بلغة واحدة.
الجغرافيا قالت ما لم تُصرّح به الكلمات،
ومن التقط الرسائل، بدأ يعيد حساباته.
فالعلاقات لم تنقطع، والمصالح لا تموت،
فقط تتغيّر لغتها… وحين تتحدث الجغرافيا، تصمت الخطب.
manal002002@gmail.com