رأي

سقوط الأقنعة؛ عندما قُتلت دارفور مرتين (!)

الطرق الملتوية تُطيلُ الرحلة وتُجِهد الراحلة (!)

الحلقة الأولى: الطريق إلى الجنوب؛ قمعٌ مركزي مواجهة مطالبٌ مشروعة!

في كل مرة يظن فيها السودانيون أنهم على مشارف انفراج وطني، تكشف الأيام عن قناع جديد يُخفي خلفه نوايا المركز الحاكم تجاه الأطراف. وما الجنوب إلا المثال الأبكر والأكثر فداحةً على هذه السياسة الملتوية التي بدأت بالقمع وانتهت بالانفصال، مرورًا بأبشع صور الإبادة الجماعية والقتل والتشريد التي شهدها القرن الإفريقي الحديث.
لم تكن حرب الجنوب الأولى مجرد نزاع سياسي مسلح، بل كانت عنواناً للفشل المستمر للدولة السودانية في إدارة تنوعها الطبيعي. فمطالب أبناء الجنوب كانت واضحة ومشروعة: تقاسم عادل للسلطة والثروة، واحترام خصوصيتهم الثقافية والعرقية والدينية. لكن عقلية المركز، كما هو ديدنها، اختارت طريق الإنكار والتعالي، ثم لجأت إلى القمع والعنف، رافعةً شعارات الاستعلاء العرقي والديني كأداة لإخضاع الآخر.
كانت البداية مع استخدام المركز لقوات المراحيل خلال عهد الصادق المهدي، وهي نسخة مبكرة من فكرة توظيف أبناء الأطراف ضد بعضهم البعض تحت شعارات قومية مضللة. لكنّ الحيلة الكبرى والأكثر دهاءً جاءت بعد انقلاب الجبهة الإسلامية في 1989، حيث قام النظام بتحويل حرب الجنوب من صراع سياسي إلى حرب دينية مقدسة، ألبسوها لباس “الجهاد”، ورفعوا راية “الفتوحات”، ومارسوا القتل على الهوية باسم الدين. حيث أطلق حسن الترابي نظريته الكارثية: (حل أزمة الجنوب في أسلمته وتعريبه، ومن أبى يُقتل)، فتحولت الحرب إلى مذبحة مفتوحة، تدفقت خلالها أنهار الدماء، وتحوّلت فيها الكنائس والمدارس إلى مقابر جماعية، وارتُكبت المجازر تحت ظلال الفتاوى ورايات الجهاد الزائف. لم تفرّق آلة الحرب بين مقاتل ومدني، بين شيخ وطفل.
هذا النهج لم يحقق سوى أمرين؛ توحيد صفوف الجنوبيين ضد المركز، بعد أن أيقنوا أن بقائهم في دولة كهذه يعني فنائهم، واستفزاز المجتمع الدولي والإقليمي الذي راقب فصول الإبادة بصمت مريب قبل أن يتحرك تحت ضغط الصور المفزعة. وهكذا، وجدت الخرطوم نفسها معزولة، ومحاصَرة دولياً، ومجبرة على قبول اتفاق السلام الذي مهد الطريق لانفصال الجنوب في يوليو 2011، بعد أن أنهكت الحرب البلاد وأفقدتها أهم مواردها الطبيعية والبشرية. ولكن الجريمة الحقيقية لم تكن في الانفصال نفسه، بل في الطريقة التي تم بها إنتاج الصراع واستدامته من قبل المركز، حيث أثبتت التجربة أن استعداء الأطراف وقمع المطالب العادلة لا يؤدي إلا إلى المزيد من الانقسام، وأن من يسلك الطرق الملتوية يطيل الرحلة ويُجهد الراحلة، وربما لا يصل إلى مبتغاه أبدًا.
وفي الجنوب، كانت تلك الرحلة الملتوية هي أولى حلقات القتل، وأول سقوط للقناع.لكن الأسوأ كان في الطريق، وكانت دارفور هي المسرح المقبل، حيث قُتلت مرتين…
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!