رأي

بريق السلطة في السودان.. ميراث الدم والذهب

منال علي محمود

كلما تحركت القوى المدنية بادر العسكر بتشكيل حكومة مدنية
كلما نطق الشعب برغبة في التغيير ردت عليه البنادق ببيان فيه مدنية كاملة الدسم
وكلما طالب الشارع بالانتقال جاءه العسكر بحكومة تكنوقراط او مجلس شركاء او اتفاق اطاري
وكأن السلطة في السودان تمنح على سبيل التسلية لا على سبيل الشرعية

منذ الاستقلال وحتى اللحظة تبدو السلطة في السودان كأنها غنيمة حرب لا اداة حكم
ميراث تتقاسمه القوى المسيطرة لا مسؤولية يتداولها من يملك رؤية وخيالا سياسيا
في بلد حكم اغلب عمره بالحديد والنار تحولت كراسي الحكم الى عروش من لهب
لا يغادرها احد طوعا ولا يمنح حق الوصول اليها الا عبر المجازر او الصفقات

ومن بؤس دورنا وقوة عين من بالسلطة
كان لنا رئيس وزراء هو نفسه وزيرا للمالية
ولم يجرؤ البرلمان على الاعتراض
لا لان القرار سليم
بل لان الكرسي اطغى من القانون
ولان الحاكم في هذا البلد دائما اعلى من الدولة

وصديقا للرئيس تبول فسادا على وزارة
فتم قلب المرتبة ليرقد براحة على وزارة اخرى
لا عقوبة ولا مساءلة
بل تدوير للوجوه كأنما الوزارات عقارات مسجلة باسم الرضا الرئاسي
وما عبد الرحيم محمد حسين الا مثال صارخ لمن لا يسقط من حسابات السلطة
مهما افسد او فشل
لانه لم يكن وزيرا فقط
بل كان جزءا من العائلة الحاكمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى

والاسوأ من ذلك ان الذاكرة السودانية مليئة بكل هذه التجاوزات
لكنها لم تصمد امام ذر الازاحة الاعلامي
تحولت الجرائم الى اخبار قديمة
والخيبات الى فواصل كوميدية
والفشل الى فرصة جديدة
حتى لحظة كتابة هذا المقال
لا تزال ابواق الاعلام تصرخ دفاعا عن الجلاد
وتسخر من الضحية
وتطلب من الشعب ان ينسى اكثر ويغفر اسرع ويعود الى الحظيرة

حتى صار الثوار
او من اضطر منهم للمعايشة داخل المحرقة
يحملون السلاح
لا من اجل مشروعهم
بل من اجل البقاء
فاندمجوا قسرا في حرب لا تشبههم
ووجدوا انفسهم وقودا لمعركة تهدر كرامة كل السودان
وتشعل فيها البنادق باسم الثورة
لكنها لا تحمل من الثورة الا الاسم

لم تكن مشكلة السودان في الفقر ولا في الجغرافيا ولا حتى في قلة الموارد
كانت مشكلته دوما في من يظن ان الحكم قدر مقدس لا وظيفة زائلة
من يخلط بين حب الوطن وحب السلطة
ويستبدل الدولة بالمزرعة ويعتقد ان بندقيته اذكى من صوت الشعب

وحين تخرج الجماهير مطالبة بحريتها يقال لها الوقت غير مناسب
وان اصرت خرج عليها البيان الاول معلنا الحداد على احلامها
ثم تبدأ ماكينة الاستهبال السياسي
لجنة تسيير حوار وطني مسار شرقي اتفاق اطاري
او حتى تكنوقراط مستقلين بصور من ارشيف الحزب الحاكم

ولان السلطة تورث في السودان لا تكتسب
نرى الابناء في المواقع والاخوة في المناصب والجنرالات في المجالس
وكأن البلاد تدار وفق عقود امتياز ابرمت بعيدا عن عين الشعب
الكل يتناوب على عرق الناس ويتبادلون الكراسي كأنها طقوس زواج سياسي جماعي

لكن السؤال الذي يفرض نفسه وسط هذا الضجيج
هل هذه الحلقة الجهنمية نتيجة جهل الشعب
ام ان العلة اعمق من ان تحمل فقط على كاهل الجماهير

الشعب السوداني لم يكن يوما غافلا بالكامل
بل كان في معظم الاحيان ضحية لامرين
الاول نخبة سياسية لم تؤمن يوما بتمكين الناس بل بادارتهم
والثاني ادوات قمع وتخويف ممنهجة البست لبوس الوطنية والشرعية الثورية
حتى صار الشعب يجلد باسم الثورة ويذبح باسم الوحدة ويجوع باسم المرحلة الانتقالية

فالعلة ليست في جهل الشعب بل في ارهاب الوعي الجمعي عبر الاعلام والتعليم والخطاب الديني والسياسي
الذي شكل عقودا من التطبيع مع الاستبداد حتى صار بعضنا لا يرى في السلطة سوى حاكم قوي لا عقد اجتماعي

ومن هنا تأتي سردية الطمع في السلطة التي تتكرر في كل حوار سياسي سوداني
حوار لا يبحث عن مشروع حكم بل عن مقاعد
لا يناقش ادوات العدالة بل يقايض بها
فتجد من بالامس كان يلعن العسكر يجلس معهم اليوم ليصوغ معهم وثيقة جديدة
ثم يخرج على الاعلام ليبرر لاجل الوطن والظروف تحكم

تأمل مثلا تكرار تواجد بيت المهدي في كل طاولة سلطة
في كل حكومة في كل مفاوضات بين معارض ووزير ومستشار
ليس لانهم دائما على حق بل لان نظام القسمة الغنائمية يشبه حفل زواج لا يكتمل الا بوجود وجوه معينة تباركه
وهنا نفهم ان السياسة في السودان لم تمارس كعقد شرف بين ممثل وشعب
بل كصفقة تبادل مصالح بين وجوه معلبة

اما سرديات البرامج السياسية والقنوات البلدية فهي ملهاة حزينة
يراد لها ان تحصر النقاش في دائرة تافهة
انت طامع في السلطة
وانت ما عندك وزن سياسي
انا ضحيت اكتر منك
وانا سجنت اكتر منك
كأن الثورة مزاد علني
او كأن الحكم جائزة شرفية تمنح للاكثر ايذاء وتعرضا للسجن

وهكذا ندور في حلقة لا تسأل كيف نريد ان يحكم السودان
بل من يحكم السودان وبأي نسبة وبأي حقيبة وزارية

ففي ظل هذا الواقع الكالح تبرز اسئلة ملحة
من يخاطب الشعب الآن من يتحدث بلغته لا بلغة المكاتب
من يترجم اوجاعه الى مشروع سياسي لا الى بيان تضامني

الساحة اليوم مزدحمة باللافتات فارغة من القادة
كل يدعي تمثيل الناس لكن لا احد يجلس معهم
الشارع وحده يركل بالغاز والمليشيات بينما القيادات تتفاوض على توزيع الخيبة لا على ايقاف النزيف

من في الساحة الآن يضع قوت الناس امنهم وكرامتهم في صدارة مشروعه
من منهم لم يتورط في لعبة الكراسي
من لم يوقع على صفقة او يتحايل على وثيقة او يساوم على دم

في هذا المسار المعطوب لا امل في من يرتدون البدلة ليبيعوا قضية
او من يرفعون شعار الوطن ليتاجروا في المواقف

رجل السودان الحقيقي هو من يعترف انو اخطأ
ويقبل ان يُحاسب قبل ان يُبايع
هو من يضع السلام اولوية لا وسيلة
ويقول ان دم المعتصمين لن يُضيع
وانه لن يحمي فاسداً
وان العدالة لا تسقط بالتقادم
هو من يرى ان الوطن يسع الجميع
وان القيادة لا تعني امتلاك الناس بل خدمتها
هكذا تُرسم ملامح رجل السودان الاول
بالمعايير لا بالالقاب
بما يُقال وقت السطوة لا وقت السقوط
بما يُلتزم به قبل ان يُطالَب به

السودان لا يحتاج من يرفع شعارات براقة
بل من يقول وقت السطوة ما لا يُقال
من يتحدث عن السلام كقناعة لا كمراوغة
عن العدالة كواجب لا كحملة علاقات عامة
عن المحاسبة كشرط للبقاء لا شرط للتفاوض
عن الدم كخط احمر لا كحبر على بيان
قيل ان لا فاسد سيُحمى
وان لا دم سيُنسى
وان العدالة لا تسقط بالتقادم
وان الوطن يتسع للجميع
تلك الكلمات قيلت في لحظة فارقة
لا يهم من نطقها
ما يهم ان السودان ما زال في حوجة لها
وان من يفعلها لا من يرددها
هو من تستحق البلاد ان تراهن عليه

اما البقية فجلهم تجار حرب
يعيشون على اشلاء هذا الوطن
ينتعلون البوت العسكري او يلفون العمامة الوطنية
لكنهم في النهاية شفشافية
جعلوا من السودان مرتعا لكل مغامر بزي رسمي او معارض بوجهين

والى ان يعلو صوت الشعب على صفقات النخب
والى ان يصبح الحكم خدمة لا مغنما
سيبقى السودان في دائرة الدم والذهب
دائرة لا تنكسر الا اذا استرد الناس سلطتهم لا فقط حلمهم

 

manal002002@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!