
منذ أن نال السودان استقلاله في العام 1956، عُرفت رمزيًا بـ”دولة ٥٦”، في إشارة إلى تاريخ التحرر من الاستعمار البريطاني المصري . لكن هذا المصطلح لم يعد اليوم مجرد إشارة زمنية ، بل تحوّل إلى توصيف ساخر ومؤلم عن واقع الدولة السودانية ، التي تعثرت في بناء مشروع وطني حقيقي، وتحولت أحلام الاستقلال إلى سلسلة من الأزمات المتراكمة .
وبالنظر إلي “دولة ٥٦” كمفهوم رمزي للأزمة في السياق السوداني الحديث ، خاصة بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، أصبحت عبارة “دولة ٥٦” تُستخدم للتعبير عن الدولة المتوقفة ، العاجزة عن مواكبة تطورات العصر ، العالقة في زمن الاستقلال دون أن تبني مؤسسات حقيقية أو دولة مواطنة. يشير المصطلح إلى السودان بوصفه دولة فشلت في تأسيس مشروع وطني جامع بعد الاستقلال ، إذ لم تُنجز تحوّلاً ديمقراطيًا مستقرًا ، ولا تنمية شاملة، ولا سلامًا دائمًا .
جذور الأزمة في “دولة ٥٦” تكمن منذ 1956حيث تعاقبت على السودان أنظمة عسكرية ومدنية ، إلا أن القاسم المشترك بينها كان غياب مشروع جامع يُنهي الحروب الداخلية ، ويؤسس للعدالة والمواطنة . ظلت النخبة الحاكمة تكرّس المركزية والهيمنة الإثنية مما دفع بالأطراف إلى حمل السلاح. ومع كل محاولة للتغيير كان العنف يعيد تشكيل المشهد. فالانقلابات العسكرية ، والحروب الأهلية في الجنوب (الذي انفصل في 2011) ودارفور وجبال النوبة كلها تعبيرات عن إخفاق “دولة ٥٦” في احتواء تنوعها .
إنفجار الفشل في اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي لم تكن مفاجئًا ، بل نتيجة حتمية لفشل طويل في بناء جيش وطني موحّد ، واقتصاد متماسك، ومؤسسات قادرة على تسيير الدولة . بدلاً من إصلاح المؤسسات فُتحت أبواب التسليح والتمكين السياسي على أسس قبلية ومناطقية حتى باتت الدولة نفسها مهددة بالانهيار الكامل .
الأمل هو الخروج من “عقدة ٥٦” يتطلب قطيعة مع الماضي ، ومع نمط الحكم القائم على الإقصاء والاحتكار . فالسودان لا ينقصه التنوع ولا الموارد بل تنقصه الإرادة السياسية والرؤية المستقبلية . المطلوب ليس فقط وقف الحرب ، بل إعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة : دولة القانون والعدالة الانتقالية والمشاركة السياسية الواسعة والاعتراف بالتعدد الإثني والثقافي .
في نهاية المطاف إن “دولة ٥٦” لم تفشل فقط في تحقيق تطلعات شعبها، بل تحوّلت إلى رمز لخذلان حلم الاستقلال. لكن من قلب هذا الفشل يمكن أن تولد الفرصة، إن توافرت إرادة جماعية لصياغة دستور جديد للعقد الاجتماعي السوداني، يعيد للناس إيمانهم بأن السودان ليس مجرد دولة وُلدت في 1956 بل وطن يمكن أن يُبنى من جديد بشعبه وتاريخه وتنوعه .
مها الهادي طبيق
24/يونيو/ 2025