رأي

كاتش 22 .. حين تحفر الإبرة عنق البرهان!

منعم سليمان

لا شك أن أعظم حماقة اقترفها قائد لجيش السودان، في كل تاريخ الجيش الحافل بالخزي والمثقل بالحروب التي شنّها على شعبه، كانت من نصيب القائد الحالي *عبد الفتاح البرهان*.

فلقد أُتيحت له فرص تاريخية لم تُمنح لمن سبقه من القادة، فرصٌ لو أحسن اغتنامها، لكانت كفيلة بأن تُدخله بوابة المجد من أوسعها، وتُخلّد اسمه في صفحات التاريخ وسِجِلّات العِظام، لا على صفيح الخزي والمهانة.

لكن، كما يقولون: الطبع غلّاب، والعرق دسّاس، فاختار بكامل طوعه وإرادته الانحدار إلى قاع المذلة، وآثر بمحض اختياره أن يلج مزبلة التاريخ، عوضًا عن أن يرتقي إلى مقام من يستحق التقدير والتكريم.

وبدلًا من أن كان يُصافح التاريخ في ردهات الإليزيه بجوار *ماكرون*، ويُجري اتصالًا مع *ترامب* في فضاء السياسة الدولية، انقلب على حياة العز والعِزّة، وانكفأ على نفسه الأمّارة بالخيانة، يُقيم في كنف أراذل القوم، ويُحيط ذاته بأسماءٍ ما كانت لتُذكر لولا اتساع المأساة وضيق الأفق: *ترك، ومرق، وشيبة، وطمبور، وطرطور، وانصرافي، ومناوي، وجاكومي!*

هكذا، انكمشت طموحاته على قدر اختياره، وتضاءل همّه حتى صار أقصى مُناه، ومبلغ سعيه، وغاية شغفه: مقابلة المفوّض الإفريقي، الجيبوتي؛ محمود علي يوسف، وكسب وُدّه!

ما يجري الآن في بورتسودان، من تصدّعٍ وسط أركان سلطة الأمر الواقع، بين البرهان ومن شاركوه في الانقلاب على حكومة الشعب، من حركات المرتزقة التي تسمّي نفسها “القوات المشتركة”، ليس سوى مرآة تعكس محاولة البرهان/الكيزان التملّص من الاتفاق المشؤوم الذي بموجبه تحالف هؤلاء المرتزقة معه، فاشتركوا معه في الانقلاب، ثم أوغلوا معه في حربٍ ضروس ضد شعب السودان.

إنه اتفاق لا يستند إلى مبدأ، بل إلى مطمعٍ مشترك، يقوم على رؤية الوطن بوصفه *كيكةً* مُقسّمة، لكل مرتزق من قادة هذه الحركات نصيبٌ منها ينتزعه غلابًا، لا استحقاقًا!

ذلك هو جوهر الاتفاق الحقيقي، فدعكم من أكذوبة *اتفاق جوبا* التي ما لبثت أن تحوّلت إلى سراب.

فأين *السلام* الذي قامت عليه؟ *وهل بقي شيءٌ منه يمكن أن تُبنى عليه التزامات*؟!

ذلك الاتفاق الخياني العظيم، القائم بين البرهان وحركات الارتزاق، هو ما عبّر عنه *مناوي* – أحد أبرز قادة تلك الحركات، وأكثرهم خفة وعتهاً – حين غرّد غامزًا من قناة البرهان قائلًا: *من أراد إحراق المراكب ظانًّا أنه قد عبر، إنما يخدع نفسه. هذا الأسلوب يدفعنا إلى أن نتناول في الإعلام ما لا يمكن تناوله.*

كلماتٌ تكشف حجم الهوّة بين شركاء الخيانة، وتشي بالأهوال التي يمسكها على البرهان، من: *بنود الاتفاق الخفي، وأسرار الحرب القذرة، وكذباتها المتراكمة؛ بدءًا من خيوط الانقلاب الأولى، ومرورًا بسؤال من أشعل نيران الحرب، وليس انتهاءً عند السرّ الكيماوي العظيم الذي لا يُقال، ولا يُحتمل كشفه*!

 

من احتكّ بالبرهان عن قرب، ممن هم على شاكلتي، لا بد أنه أدرك حقيقة جليّة: أنه ليس بذكيّ، ولكنه أيضًا ليس بالغَباء بحيث يجهل أخلاق المرتزقة الذين يحيطون به. وهو، في واقع الأمر، أحد لاعبي لعبة الارتزاق القذرة، يؤدّي دوره بمهارة لصالح آخرين، تُظهره كواجهة رخوة لأجنداتهم المستترة.

 

ولكنه، في هوسه المَرَضي بالسلطة، يستند إلى ركيزتين: *أولاهما*: ثقته العمياء في حجم الخداع والخيانة الراسخة في داخله، واعتماده على مكرٍ شخصيٍّ دؤوب، وصفه ذات مرة، في لحظة صدقٍ عاريةٍ نادرة بـ *حفر بالإبرة*، في إشارة إلى خبثٍ لا يكلّ، وتكتيكٍ خفيٍّ لا يستعجل النتائج.

 

أما *الثانية*: فهي اتكاؤه على حقيقة تاريخية بالية، لم تعد ثابتة، تهشّمت تحت أقدام التغيير… وهي حقيقة عاشها السودان منذ الاستقلال، تقول بأن الحكم والخلافة حكرٌ على (*قريش*)، ويجب ألا تخرج من نطاقها الجغرافي الممتد من نهر النيل إلى بحيرة النوبة!

 

ما يمرّ به البرهان اليوم، ليس سوى الثمن الباهظ لخيانته، إذ تشابكت حوله الحبال التي نسجها بيديه، حتى انتهى به الحال إلى ما يُعرف بـ”*وضعية كاتش-22”* (*Catch-22*)، وهو تعبير روائي أصبح يُستخدم سياسيًّا لوصف مأزقٍ دائريٍّ خانق، يجعل الخروج من المأزق مستحيلًا، بسبب شروطٍ متناقضة، كلُّ واحدة منها تنقض الأخرى وتُلغي إمكان الحل.

 

وقد استُمدّ هذا المصطلح من رواية شهيرة تحمل الاسم نفسه، تحكي عن طيّارٍ حربيّ زُجّ به في حرب فظيعة – مثل حربنا- فسعى لإثبات أنه مجنون كي يُعفى من الطيران والمشاركة في مهامّ قتالية مميتة.

لكن اللجنة العسكرية التي نُظّمت للنظر في حالته رفضت عذره، وجاء في حيثيات حكمها أن: “*من يطلب الإعفاء من الحرب بدعوى الجنون، إنما هو عاقل، لأن المجنون وحده من يرغب في خوض الحرب طواعية*.”

 

وهكذا عُلّق الطيّار في مفارقة مستحيلة، *كما البرهان اليوم*؛ لا يستطيع المضي قدمًا دون أن ينكشف، ولا التراجع دون أن يسقط. فكل مخرجٍ له، في ذاته، مأزقٌ آخر، وكل خطوةٍ نحو النجاة، ليست سوى خيطٍ آخر يشدّ العقدة حول عنقه.

 

*لا تكترثوا لمصيره؛ له الحاضر الأليم، ولنا وللسودان المستقبل العظيم*.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!