
الطرق الملتوية تُطِيلُ الرحلة وتُجْهد الراحلة (٢-٥)
الحلقة الثانية: دارفور… بين أسطورة التمرد وأكذوبة “دولة الزغاوة الكبرى”
حين تتحول القبائل إلى جيوش، والمواطن إلى عدو!
إذا كانت حرب الجنوب قد كشفت مبكراً عن وجه الدولة المركزية الاجرامي في السودان، فإن ما حدث لاحقاً في دارفور مثّل ارتكاب الجريمة ذاتها لكن هذه المرة بسيناريو أكثر التواءً، ودماء أكثر كثافة، وخطاب أكثر خبثاً. لم يتعلم المركز من مأساة الجنوب، بل أعاد إنتاجها بأدوات جديدة وبتكتيكات قوامها التحريض القبلي، والتعبئة العنصرية، وشيطنة المطالب المشروعة.
بدأت الأزمة في دارفور كمطلب شعبي وإنساني بمطالب تتعلق بالتنمية العادلة، المشاركة السياسية، ورفع معول التهميش عن إقليم دارفور الذي عانى لعقود من التمييز شبه المتعمد. غير أن عقلية الخرطوم اختارت أن تواجه هذه المطالب، لا بالحوار كما تقتضي ضرورات الحكم الراشد، بل بإنتاج سردية مفخخة تتحدث عن “تمرد قبائل الزغاوة”، وخطتهم “لطرد العرب من دارفور”، والتهديد الذي تمثله ما أسماه المركز “مشروع دولة الزغاوة الكبرى”، وهو مشروع خيالي ادعت السلطات أن هدفه وصل تشاد بدارفور لاقتطاع الإقليم من السودان.
ما بين الفكرة والفرية، اشتغلت آلة الإعلام الرسمي، مدفوعة بأجندات الحركة الإسلامية، على تسويق هذا التصور المختلق، وتصوير الحركات المسلحة – وعلى رأسها حركة العدل والمساواة – باعتبارها أداة لتهجير العرب من الإقليم، لا حركة مطلبية تسعى للعدالة الاجتماعية.
ولأول مرة، استخدم الإعلام المركزي مصطلحين صادمين حملا في طياتهما كل بذور الفتنة وهما مصطلح الزرقة للإشارة إلى قبائل الزغاوة، الفور، والمساليت، ومصطلح العرب في إشارة إلى قبائل الرزيقات، المسيرية، المعاليا، البني هلبة، السلامات، وغيرها.
هكذا، وفي ظرف وجيز، جرى إعادة هندسة النسيج الاجتماعي لدارفور عبر خطاب تخويني يشكك في نوايا الجار، ويحرض الأخ على أخيه، ويحوّل القبيلة من مكون اجتماعي إلى وحدة قتالية.
بل لم يتوقف الأمر عند الخطاب؛ إذ قامت الحكومة بتسليح أبناء القبائل العربية بشكل مباشر، بداية من “حرس الحدود”، مروراً بـ”الجنجويد”، وصولاً إلى “قوات الدعم السريع” التي تم تقنينها لاحقاً بغطاء قانوني عبر برلمان النظام، بعد أن أثبتت فاعليتها – بحسب المركز – في كسر شوكة الحركات المسلحة. ولذلك، لم تكن ولادة الدعم السريع نتاج صدفة، بل جزءاً من خطة مدروسة هندسها النظام لضمان بقاءه في مواجهة كل الأخطار المحتملة، سواء من الحركات المسلحة أو من داخل المؤسسة العسكرية نفسها. كان البشير – وقد تآكلت ثقته في ضباط الحركة الإسلامية داخل الجيش – يبحث عن قوة موازية يدين ولاؤها له وحده.
فأصبحت قوات الدعم السريع هي تلك العصا الغليظة التي يُلوّح بها النظام كلما شعر بالتهديد. جُهّزت بالمال والسلاح والتدريب، وجرى الدفع بها إلى خطوط النار، لا فقط في دارفور، بل في مناطق النزاع كافة، من جنوب كردفان إلى النيل الأزرق.
دارفور تُقتل مرتين، حيث لم يُقتل الأبرياء فقط بالرصاص والقصف، بل بإعادة تعريفهم كمشكلة، وتحويل قراهم إلى أهداف، وأسمائهم إلى ملفات أمنية، وتاريخهم إلى تهديد قومي.القتل الأول كان مادياً، والقتل الثاني كان معنوياً: حين جُرّدت المطالب من مشروعيتها، والأهالي من مواطنتهم، والإقليم من إنسانيته.
وما بين السطر والطلقة، وبين الإعلام والسلاح، سقطت دارفور بين فكي كماشة، مركز يُسلّح ويُحرّض، وأبناء قبائل يُزجّ بهم في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
لكن تلك لم تكن نهاية اللعبة… بل بدايتها، فالمركز لم يكن يريد فقط سحق الحركات المسلحة، بل أراد أن يصنع نخبة جديدة تابعة له، من رحم الصراع، ومن وقود الإبادة.
وكانت النتيجة منظومة منظومة عسكرية ترتدي كاملة العدة والعتاد، لها قانون تبعية مباشرة الى رئيس الدولة، وهي قوات الدعم السريع، حيث اصبحت تخوض الحروب بالوكالة، دون ان تعلم انها تنتظر دورها في التصفية عند كل تقاطع مصالح.
(في الحلقة القادمة: ثورة ديسمبر بين حلم الجماهير ومخالب الصفوة… كيف وقعت القوى المدنية بين مطرقة الدعم وسندان العسكر؟)