رأي

كبرون – التمثيل الرمزي في لحظة تقتضي إعادة بناء الدولة لا خدمتها:

خالد كودي

في 23 يونيو 2025، أعلن رئيس الوزراء في ما يُعرف بـ”حكومة بورتسودان”، الدكتور كامل الطيب إدريس، عن بدء تشكيل ما أسماه بـ”حكومة الأمل”، حيث أصدر قرارًا بتعيين الفريق حسن داؤود كبرون كيان وزيرًا للدفاع، والفريق شرطة بابكر سمرة مصطفى وزيرًا للداخلية. ورغم أن هذا التعيين قد يبدو إجراءً إداريًا عاديًا في إطار حكومة انتقالية، إلا أن خلف هذا القرار تكمن وظيفة رمزية مكرورة في تاريخ الدولة السودانية المركزية: توظيف أبناء الهامش كواجهة شكلية لسلطة لا يملكون مفاتيحها، وتكليفهم بتنفيذ السياسات القمعية والاعمال القذرة ضد شعوبهم أنفسهم.
ففي تجربة السودان السياسية الممتدة منذ الاستقلال، دأبت النخب الحاكمة في المركز على تعيين شخصيات من الهامش الإثني أو الجغرافي لتبييض وجه النظام، دون أن يكون لهم سلطة حقيقية أو رؤية مستقلة ومؤثرة في رسم سياسات الدولة الاستراتيجية. وهذا ما يتجلى اليوم في تعيين الفريق كبرون، في وقت يُحتكم فيه إلى وثيقة دستورية فرضتها حكومة الأمر الواقع في بورتسودان دون أي مشروعية ثورية أو شعبية، وهي وثيقة تكرّس الحكم العسكري، وتُفرغ المؤسسات من مضمونها المدني والديمقراطي.
وما يجعل تعيين الفريق حسن كبرون أكثر رمزيةً وسلبيةً، هو أن الجيش السوداني الذي سيتولى قيادته عبر وزارة الدفاع، لم يخضع لأي عملية إصلاح مؤسسي أو مساءلة قانونية منذ عقود. بل هو ذات الجيش المتورط، بقياداته العليا، في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، لا سيما في إقليم دارفور. وقد وثّقت هذه الجرائم تقارير دولية وأممية، وأُدرجت ضمن قرار مجلس الأمن رقم 1593 لسنة 2005، الذي قضى بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وبموجب هذا القرار، تُلاحق المحكمة قادة بارزين في الجيش السوداني، في مقدمتهم الرئيس الأسبق عمر البشير، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين. كما أن قائد الجيش الحالي عبد الفتاح البرهان، بحسب تقارير حقوقية موثوقة، مرشح للمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية لتورطه المحتمل في الانتهاكات المرتكبة خلال حرب دارفور، وكذلك دوره في مجزرة القيادة العامة في الخرطوم في 3 يونيو 2019
إن تسلُّم كبرون قيادة هذا الجيش، لا يعني سوى استمرار ذات المنظومة التي ارتكبت أفظع الجرائم بحق السودانيين، لا سيما أبناء الهامش، وتثبيت رمزي لوظيفة “التمثيل الإثني” كقناع لإخفاء الدولة القمعية.

ولم تقتصر انتهاكات الجيش على أطراف السودان، بل بلغت ذروتها في 3 يونيو 2019، حين نفذ الجيش ومليشياته مجزرة بشعة بحق المعتصمين السلميين أمام القيادة العامة في الخرطوم، أثناء ثورة ديسمبر، حيث قُتل واغتُصب المئات في واحدة من أكثر الجرائم العلنية فظاعة في تاريخ السودان الحديث. ومنذ ذلك التاريخ، لم يخضع الجيش لأي محاسبة، بل أعيد إنتاجه كأداة قمع وتصفية جسدية ورمزية لخصوم النظام.
في ظل هذا الإرث الملطّخ بالدماء، لا يمكن النظر إلى تعيين الفريق كبرون إلا كحلقة جديدة في سلسلة التوظيف الرمزي الإثني لخدمة بنية الدولة القمعية، لا لإصلاحها. فهو لا يأتي إلى المنصب حاملًا لرؤية دفاعية وطنية، ولا لمشروع إصلاح المؤسسة العسكرية، بل لتنفيذ أجندة قمعية تستهدف ما تبقى من قوى الهامش، ومشروع السودان الجديد، عبر ضربهم باسم “التمرد” كما يروّج له خطاب السلطة في بورتسودان.

المفارقة الجارحة: وزير بلا صوت وجنود بلا مأوى:
في مفارقة تكاد تلامس حدود المأساة، يتزامن تعيين الفريق حسن كبرون وزيرًا للدفاع في حكومة بورتسودان، مع حملات هدم واسعة لمنازل الجنود الفقراء وأسرهم من أبناء الهامش في أطراف العاصمة الخرطوم وغيرها من المدن، بحجة “إزالة السكن العشوائي”، وهي الحجة القديمة المتجددة لتجريد المهمشين من الأرض والمسكن والكرامة .ففي حي مايو، ام الخيرات، والعزبة، ومناطق في الحاج يوسف، وكذلك في أطراف أمدرمان الحارات الطرفية… والكنابي في قري الجزيرة، تتم إزالة الاف المنازل بالجرافات الحكومية في مايو ويونيو 2025، تحت حماية القوات النظامية، دون إنذار، وبلا بدائل سكنية، مما أدى إلى تشريد آلاف الأسر التي تعيش على الكفاف، كثير منها من عائلات الجنود النظاميين الذين يخوضون الحرب ذاتها التي تزعم الحكومة أنها “معركة كرامة” وفيديوهات الأطفال والنساء في العراء تملا الوسائط.

المأساة المؤلمة أن كثيرًا من الجنود الذين جُرفت منازلهم وطُردت أسرهم إلى العراء بلا إنذار، هم من أبناء الهامش، أولئك الذين التحقوا بالقوات المسلحة السودانية منذ سنوات طويلة، بعضهم من مصابي حرب دارفور (2003–2009)، وآخرون من الذين يقاتلون اليوم في الصفوف الأمامية فيما يسمي بحرب الكرامة، ورغم هذه التضحيات، لم تسلم أسرهم من الجرافات، ولم يجدوا حتى كلمة تضامن واحدة من أحد كبار الضباط الذين يُفترض أنهم يعرفون معاناتهم، ويشاطرونهم الانتماء الجغرافي والإنساني… وعلى رأسهم الفريق حسن داؤود كبرون كيان، الذي لم يكن وقتها مجرد ضابط في الجيش، بل أحد القادة البارزين فيه.
فالسؤال لا يتعلق بما سيفعله كبرون بعد تعيينه وزيرًا للدفاع، بل بما لم يفعله وهو في قلب المؤسسة، حين صمت تمامًا عن الإهانات التي لحقت بجنوده، وأهاليهم، وزملائه في الخدمة، ممن هُدمت بيوتهم باسم “إزالة العشوائيات”، في واحدة من أبشع صور إذلال المهمشين وضرب النسيج المعنوي للجنود/ لجنوده!
إن هذا الصمت لم يكن عرضيًا ولا بريئًا، بل كان تعبيرًا عن التموضع السياسي لكبرون داخل بنية الطاعة القديمة، كضابط يكتفي بالتنفيذ، ويتجنب الاشتباك مع سياسات الدولة حتى لو كانت موجهة ضد زملائه وضد المهمشين الذين شكلوا عمق الجيش الاجتماعي. وهذا السجل – لا صفة الوزير الجديدة – هو ما يجب مساءلته.

إن تعيين كبرون، في هذا الظرف المعقّد، لا يُفهم إلا بوصفه وظيفة رمزية خادعة، تهدف إلى التغطية على طبيعة السلطة لا مساءلتها. فالرجل الذي صمت أمام طرد جنوده وأسرهم من منازلهم، لا يمكن اعتباره مؤهلاً للدفاع عن الوطن في لحظة الحرب والانهيار، ولا قادراً على طرح مشروع يُصلح الجيش أو يُعيد تعريف علاقته بديناميكيات الصراع الراهن، أو يُرمم الثقة مع المجتمعات التي ترتكب فيها الانتهاكات باسم “الدولة”.
فكيف يُكلَّف رجل بالأمن القومي، وهو نفسه لم يحرك ساكنًا حين كان الأمن الإنساني لجنوده يُسحق تحت عجلات الجرافات؟

كبرون بلا رؤية: غياب المشروع في لحظة الحاجة إلى التحوّل:
في اللحظة التي يواجه فيها السودان إحدى أعقد الحروب الأهلية في تاريخه الحديث، تتجاوز الأزمة مجرد صراع مسلح لتطال جوهر الدولة، وبنيتها، وهويتها، ووظائف مؤسساتها. ويقف الجيش السوداني اليوم، باعتراف تقارير أممية وإفريقية، على أرضية أخلاقية وسياسية مهتزّة، إذ تشير تقديرات المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (2024) إلى ارتكاب القوات المسلحة السودانية والقوات التي انشقت عنه انتهاكات واسعة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور والخرطوم والجزيرة وجنوب كردفان… الخ.. دون أن يصاحب ذلك أي عملية إصلاحية داخلية أو مراجعة هيكلية لقياداته أو لعقيدته القتالية!
في هذا السياق، فإن تعيين الفريق حسن داؤود كبرون كيان وزيرًا للدفاع لا يندرج ضمن رؤية مساءلة او إصلاح هذه المؤسسة أو إعادة تعريف دورها، بل يعيد إنتاج نمط قديم من التعيينات الرمزية لأبناء الهامش للاستمرار في مشروع مرسوم لهم. فكبرون لا يُعرف له أي اجتهاد تنظيري أو عملي في بناء سياسات دفاعية متماسكة، ولا في تحديث الصناعات العسكرية أو هيكلة العلاقة بين الجيش والمجتمع المدني، ولا في تطوير خطاب أمني- وطني يعيد الاعتبار لقيمة الإنسان السوداني كمركز للسيادة، لا كضحية دائمة لأوامر الطاعة العمياء.

أن السودان لا يواجه فقط أزمة أمنية، بل أزمة في معنى “الجيش” نفسه. فهل الجيش السوداني، كما هو، يمثل كل السودانيين؟ وماهي طبيعة هذا التمثيل؟ وهل يضمن أمنهم جميعًا، أم يشتغل كذراع لقلة من ذوي الامتيازات التاريخية الذين يستخدمون الدولة لمراكمة الهيمنة؟ في هذا السياق، فإن مجرد “تنصيب” كبرون، وهو من إثنية النوبة، لا يعكس تحولًا هيكليًا أو اعترافًا بالحق في المشاركة، بل هو امتداد لنهج قديم من إدماج أبناء الهامش في مواقع شكلية لتبرير عمليات القمع، لا لقيادتها أو تغييرها.
من ناحية واقعية، فإن الجيش السوداني، في بنيته الحالية، نتاج مباشر لحقبة التمكين الإسلامي – العسكري منذ التسعينيات، واستمر في موقعه بعد الثورة عبر تحالفات مضادة للثورة، دون أي محاولة لمساءلة ماضيه أو هندسة مستقبله. وقد فشل في أن يكون جيشًا مواطنيًا جامعًا، وشارك في قمع الثوار، كما في مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وفي حماية الامتيازات الجغرافية – الطبقية في مواجهة قوى الهامش. لذا فإن الحديث عن قيادة الجيش في هذه اللحظة دون ربطها بضرورة إعادة التأسيس هو مراوغة سياسية خطيرة.
من هذا المنظور، لا يمكن النظر إلى تعيين الفريق كبرون إلا كتمديد وظيفي لهيمنة الدولة المركزية العنصرية، عبر الاستعانة بوجوه هامشية خالية من الرؤية أو المساءلة او النقد. فالرجل لم يصدر عنه أي موقف من انتهاكات الجيش، ولا من جريمة فض الاعتصام، ولا من هدم منازل الجنود أنفسهم في قلب العاصمة. وهو بذلك، يصلح لأن يكون أداة لإدارة الولاء، لا لبناء وطن.

خاتمة: كبرون ليس قائدًا… بل تمثيل رمزي في خدمة النخب الاستبعادية:
في ضوء ما سبق، يتضح أن تعيين الفريق حسن داؤود كبرون كيان وزيرًا للدفاع ليس خطوة نحو بناء جيش وطني جديد، بل إعادة تدوير لوظيفة قديمة ومجربة: وظيفة الرمز الإثني المفرغ من أي مشروع تغييري. كبرون لا يُستدعى لتمثيل تطلعات شعبه أو صياغة رؤية وطنية، بل يُستخدم كقناع رمزي لتغطية أجندة السلطة المركزية، وإضفاء شرعية مزيّفة على بنية دولة لا تزال تمارس الإقصاء، وتعيد إنتاج أدواتها القمعية من خلال شخصيات مختارة بعناية من الهامش.
ففي لحظة يتطلب فيها السودان إعادة تأسيس كاملة لعلاقته بالجيش، والمواطنة، والتنوع، والعدالة، يُقدَّم كبرون لا كقائد يحمل مشروعًا، بل كمنفّذ صامت لأجندة نخبوية لا تعترف بالتعدد ولا بالمصالحة، بل تسعى لاستخدامه كأداة لتقسيم حواضن الثورة والتشويش علي مشروع السودان الجديد. إنه، في جوهره، امتداد لسياسات الإزاحة الناعمة: محاولات إزاحة المشروع الجذري من أجل الإبقاء على البنية نفسها بوجوه مختلفة.
إنه لأمر كاشف أن يُعيَّن وزير دفاع في لحظة تاريخية فاصلة، بينما تُهدم بيوت الجنود، ويُطرد الفقراء من أبناء الهامش من هوامش الخرطوم، دون أن ينطق بكلمة واحدة، أو يعلن موقفًا واحدًا، أو يعبّر عن رؤية لحماية من يفترض أنه يمثلهم. في مقابل ذلك، تقترح قوى “تأسيس” – التي وُلدت من قلب النضال ضد التهميش – بناء جيش وطني جديد، بعقيدة مدنية، وتمثيل عادل، ومهمة دفاعية تنبع من حماية الإنسان لا سحقه التالسيس لتهميشه.
ولذا، فإن السؤال المطروح لا يتعلق بشخص كبرون فحسب، بل بطبيعة الدولة التي يُراد بناؤها من جديد: هل هي دولة رموز مفرغة، أم دولة مؤسسات متحررة من تركة القهر؟ هل هي دولة تقاوم الثورة من الداخل، أم تُبنى على أساس مبادئ الثورة؟
الإجابة، بكل وضوح، ليست في يد كبرون.
فهو ليس مشروعًا… بل مجرّد وظيفة رمزية في خدمة بنية لم تعد قابلة للإصلاح، بل للتفكيك وإعادة التأسيس.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!