رأي

كيف يستقيم الظل و العود اعوج 102؟ .. عودة القائد وتحوّل السودان: قراءة في خطاب الأمير المشير محمد حمدان دقلو

الصديق المريود

في تقاليد العمل الاستخباراتي، لا شيء يُربك العدو أكثر من عودة من أعلن موته رسميًا. فقد اعتاد العالم أن يسمع عن “الهدف الذي تمت تصفيته”، لكنه نادرًا ما يشهد لحظة الانبعاث الرمزية من قلب الموت المُعلن. هذا تمامًا ما فعله القائد الأمير المشير محمد حمدان دقلو، حين عاد إلى الساحة ليس شبحًا يُتداول في الوسائط، بل قائداً يمشي بين صفوف جنوده في بث مباشر حيّ، يهدم روايات مضللة بُنيت حول موته، ويعيد ترتيب المسرح السياسي والعسكري السوداني بجرأة القادة الكبار.

إنها لحظة تُشبه ما وصفه الشاعر:

“إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة… فلابد أن يستجيب القدر”
وفي السودان، أراد الهامش الحياة، فاستجاب له قائد خرج من بين صفوف الناس لا من كليات العسكر، ليُعيد صياغة الدولة ومفهوم السيادة من جديد.

ثلاث سنوات من الترويج الإعلامي المكثف لمقتل دقلو، كان هدفها الأساسي شلّ البنية النفسية لقوات الدعم السريع، وإغلاق الباب أمام أي عودة محتملة له. استخدم المركز سردية محكمة محمولة على إعلام موجه وأجهزة أمنية وجيوش إلكترونية، لكنها انهارت جميعها في لحظة. صورة واحدة فقط في عرض عسكري، لم تكن هزّة إعلامية، بل زلزالًا سياسيًا كاملاً.

في علم النفس الاستخباراتي، هذه اللحظة تُعرف بـ”الارتداد الرمزي”: حيث يعود المستهدف ليس فقط للحياة، بل إلى قلب الرواية التي افترضت غيابه. عاد حميدتي لا بوصفه قائد مليشيا، بل كقائد بديل، يحمل مشروعًا، وأرضًا، وحاضنة جماهيرية، وخطاب دولة كاملة.

مثل سوداني يقول: “الراجل البيسند جبل ما بتهزو الريح”
وحميدتي أثبت أنه ليس مجرد سندٍ لجبل، بل جبلٌ في ذاته، لا تهزه رياح الشائعات ولا تزعزعه حملات المركز الإعلامية.

تزامن ظهوره في غرب السودان مع تحركات عسكرية متقدمة في الجنوب، حيث كان شريكه في تحالف “تأسيس”، القائد عبد العزيز الحلو، يسقط مواقع الجيش في جبال النوبة واحدة تلو الأخرى. وفي غضون أسبوع واحد، انهارت الخطوط الأمامية للجيش، وقُتل قائد قوات مليشيات بورسودان – برتبة لواء – وسط صمت رسمي مريب. كانت المعركة ميدانية ورمزية في آن واحد. بينما كانت الدولة المركزية تُفكك روايتها القديمة، كان “تأسيس” يُبني بهدوء، بثقة، وبمنهجية.

وفي الشرق، تهاوت المليشيات الحليفة للمركز تحت ضغط داخلي وخارجي. إيران مشغولة بأزماتها الداخلية، ومصر تتخبط تحت عبء ديون خانقة، وليبيا المتقلبة على مثلث العوينات باتت أقل قدرة على المناورة. هذا ما يجعل تحالف “تأسيس” أكثر من مجرّد تحالف عسكري؛ إنه مشروع دولة، يتبلور على الأرض، لا في الخطب.

“إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” – عمر بن الخطاب
وقد أدرك حميدتي ذلك، فجمع بين الشرعية الأخلاقية والقدرة على فرض الوقائع، فصار البديل الأبرز للدولة القديمة.

منذ عام 1956، ظل تحالف قبلي ضيق (الجعليون، الشايقية، الدناقلة) يهيمن على مفاصل الحكم، متكئًا على الجيش والدولة العميقة. لكن هذه المرة، لا يأتي التحدي من “الهامش” فحسب، بل من قلب الانهيار البنيوي للمركز نفسه. لم يعد الأمر “تمردًا”، بل ولادة مشروع بديل للدولة، يشبه ما حدث في جنوب أفريقيا عندما انهار نظام الفصل العنصري تحت ثقل الواقع السياسي والأخلاقي الجديد.

خطاب حميدتي لم يكن مجرد تصريح انتصاري، بل بيان من رجل دولة يعي تمامًا مآلات الأمور، ويعلم أن الحرب ليست فقط بالبندقية، بل بالكلمة والتخطيط والاستراتيجية.

يقول حكيم صيني: “الحرب تُخاض ثلاث مرات: في العقل، ثم في الميدان، ثم في كتب التاريخ.”
وحميدتي، بخطابه، انتصر في المعركة الأولى، ويمضي في الثانية، ويؤسس لما سيُكتب في الثالثة.

أكد الخطاب أن الشعب السوداني لن يُهزم، لأنه يدافع عن حقه في الحياة والكرامة. وأشاد ببطولات قواته في صحراء كردفان، حيث تم سحق متحرك العياط، في عملية نوعية أظهرت القوة والانضباط والتخطيط المحكم. لكنه لم ينسَ أن الحرب ستنتهي، وأن النصر الشامل آتٍ لا محالة، وأن بناء الدولة الفيدرالية الديمقراطية العلمانية بات مسألة وقت.

ولم يكن الحديث عن الداخل فقط، بل عرّج على المواقف الدولية، حيث اعتبر قرار إدارة ترمب فرض عقوبات على جيش البرهان، نتيجة استخدامه أسلحة كيميائية، نصراً أخلاقيًا للقضية. إنها أول مرة يُدان فيها رسميًا من تسبب في كوارث إنسانية وبيئية في السودان. وهنا يُطرح السؤال الأخلاقي العميق: هل جيش وطني يقتل شعبه بالكيميائي؟

“الحقيقة مثل الشمس، قد تُحجب مؤقتًا، لكنها لا تختفي.” – مارتن لوثر كينغ
وقد ظهرت الحقيقة أخيرًا، فتكشف زيف من يدّعون حماية الوطن وهم يذبحونه.

خطاب القائد كذلك فضح الأنظمة التي تساهم في دعم الحرب وتدمير السودان، وعلى رأسها طهران، نظام السيسي، وأسياس أفورقي، وبعض الأنظمة العربية التي تموّل الجماعات المتطرفة. لم يكن التلميح كافيًا، فجاء التصريح فاضحًا، ليعيد تشكيل وعي الجمهور حول خريطة التحالفات.

وفي لفتة ذكية، منح القائد رتبة ملازم أول لأحد الشباب الذين انضموا لتحالف تأسيس، رغم أن عمه يقاتل في صفوف جيش البازنقر، في مشهد يلخص أن الوعي هو الحاسم في هذه الحرب، لا روابط الدم.

“الدم ما بصير موية، لكن الوعي أقوى من الوراثة.” – مثل مروي مستحدث

ظهر حميدتي هادئًا، واثقًا، لم يحتج لرفع صوته. لم يدافع عن نفسه، بل أثبت وجوده بالفعل لا بالقول. إنها لحظة كسر التصور. فقد كان يُنظر إليه كقائد مليشياوي محدود الأفق، لكنه عاد بصورة رجل دولة، يمتلك مشروعًا متماسكًا، وشبكة تحالفات، ورؤية واضحة.

الخصوم الذين راهنوا على تفكك قواته، تفاجأوا بواقع جديد: إعادة تموضع، تنظيم عميق، خطاب ناضج، وحاضنة قوية. “تأسيس” لم يكن بيانًا عابرًا، بل لحظة تدشين لبنية دولة جديدة، تنبني في الميدان قبل القاعات.

قال المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ… فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
وهذا تمامًا ما يفعله حميدتي وتحالفه الآن: مغامرة كبرى من أجل شرف بناء وطن جديد.

خاتمة: السودان إلى أين؟

السؤال اليوم لم يعد: من يحكم الخرطوم؟
بل أصبح: من يملك مشروع الدولة؟ ومن يعيد تعريف السودان؟

والإجابة، بعد قاعة جومو كينياتا، وبعد ظهور القائد وسط جنوده، وبعد خطاب النصر، باتت واضحة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: السودان ما بعد 2025 ليس هو السودان الذي عرفناه. ثمة مشروع جديد يولد، بثبات، وصبر، ونَفَس طويل.
و”تأسيس” لم يعد فكرة، بل صار واقعًا، و”الرجل الذي أعلنوا موته اثنتي عشرة مرة” عاد أقوى مما مضى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!