
في الوقت الذي انهارت فيه مؤسسات الدولة السودانية تحت وطأة الحرب، وبينما يطارد الموت والكوليرا والجوع المواطن البسيط، تطلّ سلطة العسكر والكيزان في بورتسودان، قبيل يومٍ من توقف حرب إيران/إسرائيل، بإعلان صاخب عن: “اكتمال إجلاء الرعايا السودانيين من إيران”، وكأنها ما زالت تمسك بزمام دولة، أو تعبأ بمعنى المواطنة، وكأن إيران كانت ملاذًا للنازحين واللاجئين، لا أحد الأسباب في مأساة لجوئهم ونزوحهم.
لكن الإعلان الباهت الصادر عن خارجية الانقلاب والحرب لم يصمد طويلًا، إذ تحوّل سريعًا إلى مرآة تعكس عمق الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي تعيشه البلاد منذ انقلاب أكتوبر 2021. ذلك الانقلاب الذي لم يكتفِ بخنق التحوّل المدني ووأد أحلام السودانيين، بل أعاد الإسلاميين إلى الواجهة، ودفع بالبلاد إلى حرب مدمّرة شردت الملايين داخل الوطن وخارجه.
وفي خضم هذه الكارثة، لم تُبدِ السلطة القائمة أي التفات جاد لأوضاع السودانيين في المنافي أو معسكرات النزوح، لا سيّما الجاليات بالخارج، التي لم تكن ضحية الحرب وحدها، بل ضحية سياسات ممنهجة دفعتها إلى الشتات عبر الإفقار وسلب الكرامة وبيع الانتماء. وعادت السياسات ذاتها، وعادت معها السفارات كما كانت في عهد الطغمة: دكاكين تبيع وثائق السفر بأسعار باهظة، لا تليق إلا بجواز بات الأغلى ثمنًا في السوق، والأرخص قيمة واحتراماً بين الأمم!
فلماذا، إذًا، كان ذلك الحماس المفاجئ لإجلاء مئات من إيران، بينما يُترك الملايين في معسكرات النزوح وعلى صحراء التيه، بلا موسى؟
هنا يتضح جوهر المسألة: المُجلَون من إيران لم يكونوا مواطنين عاديين، بل أبناء الحركة الإسلامية؛ بعضهم مبتعثون إلى معاهد (قم) الدينية، وآخرون كوادر أمنية ومليشياوية يتدربون لدى الحرس الثوري الإيراني على الطائرات المسيّرة وتقنيات الحرب الرمادية. إنهم نواة المشروع الذي أسقط الثورة، وجر البلاد إلى الخراب ليعيد مع العسكر عهد الاستبداد بثوب ديني وعسكري جديد.
لم يكن الإجلاء إذًا استجابةً لنداء إنساني، بل امتثالًا لحسابات الولاء. لم تكن الدولة تُنقذ رعاياها، بل تُنقذ عناصرها. لم تُنقذ بشرًا، بل حصّنت ذاكرة التنظيم، واستبقت نواته الصلبة، استعدادًا لإعادة التمكين في قابل الأيام.
وهنا تتجلّى المفارقة: بينما تُختطف الدولة على يد جماعة دينية فاسدة تعيد إنتاج ذاتها، يُترك الوطن الحقيقي – المواطن، الإنسان – لتيهه، تسحقه الحرب وتدهسه عتمة التشرد!
إن جلاء إيران لم يكن جلاء مواطنين، بل جلاء مشروع. مشروع لم يمت، بل انتقل بطائرات خاصة من تحت الرماد إلى حيث يُعاد إحياؤه، مترقبًا لحظة الانقضاض من بوابة جيش الخزي والعار، على وطن يتفتت، وشعب يُهجّر، وخرائط تُمحى. مشروع يُعاد هندسته على وقع طائرات (شاهد) الإيرانية، لتنشأ تحته نواة حرس ثوري جديد على البحر الأحمر، لا يقل توحشًا عن الحرس الأصلي في منبته.