
عندما وقعت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، لعب المتعلمون والمثقفون دورًا محوريًا في زيادة وحشيتها ودمويتها. فعلى وقع خطابات إذاعة الألف تلة وأغاني الفنان المشهور سيمون بيكيرا، كانت المذابح تُنفَّذ في أجواء من الحماس والنشوة. لم يكن الأطباء استثناءً من هذه المجازر، فقد قالت منظمة حقوق الإنسان الأفريقية: “إن نسبة الأطباء الذين أصبحوا قتلة بامتياز كانت مرتفعة للغاية. لقد شارك عدد كبير من أكثر الأطباء تأهيلًا وخبرة في البلاد في قتل زملائهم من التوتسي، والمرضى، والجرحى، واللاجئين المذعورين الذين لجأوا إلى مستشفياتهم طلبًا للحماية”. كما ذكرت المجلة الطبية البريطانية أن بعض “أفظع المذابح وقعت في عيادات الولادة، حيث تجمع الناس معتقدين أن أحدًا لن يجرؤ على قتل الأمهات والأطفال حديثي الولادة”.
انضم المعلمون أيضًا إلى جوقة القتلة. فقد قال أحد المعلمين الهوتو للصحفي الفرنسي باتريك دو سانت إكزوبيري: “لقد قُتل الكثير من الناس هنا. لقد قتلت بنفسي بعض الأطفال. كان لدينا ثمانون طفلًا في السنة الأولى، ولم يبقَ منهم سوى خمسة وعشرين. أما الآخرون، فقد قتلناهم أو فرّوا”. كما تورط نشطاء في مجال حقوق الإنسان في هذه المجازر، حيث تم لاحقًا اعتقال رئيس إحدى منظمات حقوق الإنسان، إينوسنت مازيمباكا، لدوره في هذه الفظائع.
حرب السودان ليست حالة فريدة؛ فقد شهدت بلادنا مثل هذه المذابح من قبل، في حقب لم تكن فيها وسائل التواصل الاجتماعي متاحة، وفي أماكن لم يكن لأهلها القدرة على إيصال معاناتهم إلى العالم، سواء في جنوب السودان، دارفور، جبال النوبة، أو النيل الأزرق. جميع هذه الحروب مرتبطة بحبل سُرّي واحد ظل يُغذّي استمرارها ويُوسّع رقعة انتشارها وهو فشل السودانيين في بناء صيغة عادلة للتعايش مشترك داخل الرقعة الجغرافية التي خلفها لهم الاستعمار.
عندما اندلع أول عمل مسلح في جنوب السودان، كان احتجاجًا محدوداً على غياب العدالة وعدم المساواة التي ورثها الحكم الوطني عن المستعمر، لكنه لم يعمل على إصلاحها، بل عمّقها بترسيخ سيطرة جماعات محددة على السلطة، وتهميش غالبية السودانيين وحرمانهم من حقوقهم. حينها، لم يجد الحكام طريقًا لحل الأزمة إلا عبر فوهة البندقية.
“تاح تاح تااااح… تُحسم بالسلاح!”
بدأت هذه الدائرة الشريرة مع سياسات نظام عبود عقب انقلابه، حيث شنّت السلطة المركزية عبر الجيش حربًا ضد مواطنيها بلا رحمة، وسلّحت قبائل ضد قبائل، وخلقت ميليشيات مسلحة لتخوض حروبًا بالوكالة، وانخرط الجيش في السياسة وفرض سلطته بالقوة. تفاقمت الحرب في الجنوب، ثم توقفت مؤقتًا عبر اتفاق أديس أبابا، لكنها اندلعت مجددًا بوتيرة أشد، حتى أجّجتها وعمقتها الجبهة الإسلامية القومية عبر انقلابها، وانتهى الأمر بانقسام السودان إلى بلدين. في دارفور، اتُّبعت السياسة ذاتها، فرض الهيمنة بالقوة، تشكيل ميليشيات حزبية وقبلية، وتسليح العشائر والإثنيات ضد بعضها البعض، حتى ارتُكبت الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها 300 ألف إنسان بريء.
هل تعلّمنا شيئًا؟ هل أورثتنا هذه التجارب المريرة الحكمة؟ هل استوعبنا دروس التاريخ؟
الإجابة، بكل أسف: لا.
ففي حرب 15 أبريل الإجرامية، “المشاهد هي ذاتها والصور نفس المشاهد”. مثقفون ومتعلمون يُهلّلون للدماء، يكبّرون للقتل، ويفرحون بالذبح. مجموعات عجزت عن التعايش مع بعضها البعض، فظنّ كل طرف أنه قادر على فرض إرادته على الآخرين بالقوة. تكرار للمآسي نفسها، وتجريب المجرب، والضحية دائمًا هو المواطن البسيط، الذي لا ناقة له ولا جمل في هذا الصراع.
ما هي النتيجة؟ موت ونزوح ولجوء وجوع ودمار شامل في البنى التحتية والمساكن والمزارع والمصانع، والأهم من كل ذلك… نفوس الناس.
موقفنا من هذه الحرب أنها حرب إجرامية بامتياز، وكل من لم يعتزل فتنتها ويدعو لإنهائها فهو شريك فيها: من يقتل، ومن يُشجّع القتل، ومن يُبرّره، ومن يتغاضى عنه، ومن يُدين جزءًا منه بينما يغض الطرف عن جزء آخر.
هذه ليست حربًا جديدة، بل هي امتداد لحروب السودان السابقة كلها. والمخرج الوحيد منها ليس بتجريب المجرب والدعوة لمزيد من العنف، بل عبر حل سلمي سوداني خالص، يقود إلى عقد اجتماعي جديد، يضمن العدالة والتعايش بين السودانيين، دون هيمنة طرف أو تمييز ضد طرف، ويخرج البندقية تماماً من معادلة السياسة ليتداول الناس سلماً في شؤونهم ويختاروا طواعية ما يريدون.
هذا هو طريقنا، وهذا هو نداؤنا، حتى يعود التعقل والرشد إلى بلادنا. ولن تحيد بنا عن هذا الطريق بذاءات دعاة الحرب أو تهديداتهم، فوجه السودان الجميل لا يستحق هذا القبح الذي أرادوا فرضه عليه.
#لا_للحرب