رأي

سقوط الأقنعة؛ عندما قُتلت دارفور مرتين (!) الطرق الملتوية تطيل الرحلة وتجهد الراحلة (٣-٥)

عباس احمد السخي

الحلقة الثالثة: ثورة ديسمبر بين الحلم والمكيدة… كيف وقعت القوى المدنية بين مطرقة الدعم وسندان العسكر؟
في لحظة نادرة من التاريخ، نهض الشعب السوداني ليقول كلمته في وجه الاستبداد. كانت ثورة ديسمبر المجيدة – بما فيها من دماء وتضحيات – أعظم تعبير عن توق الأمة للتغيير والخلاص من قبضة الطغيان. لكن، وفي ذات اللحظة التي بدأت فيها أحلام التحول تتشكل، كانت القوى المضادة تستعد لتقويض كل شيء، عبر سيناريو شديد التعقيد، أبطاله هذه المرة لم يكونوا الجبهة الإسلامية فقط، بل تحالفات جديدة نشأت في الخفاء، وظفت كل أدوات الدولة القديمة.
ولكن، في لحظة حاسمة من عمر الثورة، رفضت قوات الدعم السريع تنفيذ أوامر فض الاعتصام بالقوة، بل شاركت في اعتقال الرئيس المخلوع عمر البشير. بدا الأمر مفاجئاً، ليس فقط للثوار، بل حتى لقادة المجلس العسكري أنفسهم.
هذه الانعطافة جعلت محمد حمدان دقلو (حميدتي) رقماً صعباً في المشهد الجديد. وتموضعت قواته – بحسابات الثورة أو بحسابات القوة – كطرف أساسي في المعادلة الانتقالية.
لكن وجود الدعم السريع في المشهد المدني لم يكن ناتجاً عن توافق استراتيجي، بل كان جزءاً من تناقضات المرحلة الانتقالية، حيث التقى الطموح الشخصي بالعجز المدني، وتحول الفعل الثوري إلى مساحة هشّة، يتنازعها أصحاب السلاح، ويتربص بها أعداء الثورة.
بعد تشكيل الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك، بدا أن الدعم السريع يحاول أن يثبت نفسه كقوة داعمة للاستقرار. تولّى حميدتي الإشراف على اتفاق جوبا للسلام، وساهم في استقدام قيادات الحركات المسلحة إلى الخرطوم، وعلى رأسهم جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي الى الخرطوم لاول مرة.
لكنّ هذا التمدد لم يكن محل ارتياح لدى المؤسسة العسكرية التقليدية بقيادة عبد الفتاح البرهان.
ففي نظر نخبة المركز، كان اتفاق جوبا تحالفاً ضمنياً بين الدعم السريع والحركات المسلحة، وهو ما أشعل فتيل الشكوك القديمة حول طموحات حميدتي، ومدى استعداده لمشاركة السلطة لا فقط مع المدنيين، بل مع “أبناء المركز” أنفسهم.
حينها بدأت آلة إعلام النظام القديم – التي لم تفكك – في العمل لإعادة صياغة الوعي العام. ظهرت شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” اعادت قوى الظلام استخدام هذا الشعار مرة لتحقيق مصالحها الذاتية.
وفي خلفية هذا الشعار، كان الهدف واضحاً: خلق هوة بين الدعم السريع وقوى الثورة، ثم بينه والحكومة المدنية. حيث تم تأجيج الشارع ضد الدعم السريع، وجرى تصويره كتهديد للفترة الانتقالية، لا شريك لها. ثم جاءت المرحلة الثانية: افتعال توترات بين حميدتي والمدنيين، عبر ملاسنات إعلامية غير محسوبة، تم الترويج لها من قِبل أذرع الإعلام الإسلاموي، وجرى استدعاء خطاب التخوين والانقلاب الناعم.
في خضم هذه الأجواء المتوترة، نفّذ الفريق أول عبد الفتاح البرهان انقلاب 25 أكتوبر 2021، بمشاركة من حميدتي نفسه.
لكن سرعان ما تبيّن أن حميدتي كان ضحية خدعة محكمة، أعدها رجال النظام البائد داخل المؤسسة العسكرية. فقد جرى استدراجه للمشاركة في الانقلاب بهدف عزله لاحقاً، وإضعافه سياسياً، وتحييده عسكرياً.
حين أدرك حميدتي طبيعة المخطط، تحوّل إلى الدفاع عن مكاسبه السياسية، وبدأ في محاولات العودة الى دعم الخط المدني من جديد، عبر تصريحات تدعم عودة الحكم المدني وتندد بالانقلاب والإعلان ان هذا الانقلاب نفذته عناصر الاخوان داخل الجيش.
لكن الأوان كان قد فات، والمسرح كان قد أُعد لمواجهة جديدة، هذه المرة بين الدعم السريع نفسه وكل خصوم المركز، بما فيهم رفاق الأمس في الحركات المسلحة.
بمؤازرة المركز نفسه، انتقلت العلاقة بين الدعم السريع والحركات من التنسيق إلى التصادم، وكانت الدولة العميقة قد بدأت في إعادة تموضع الحركات المسلحة داخل معسكر السلطة الجديدة، عبر الإبقاء على حصصهم في مؤسسات الانقلاب، ومنحهم امتيازات مالية وإدارية.
كان الهدف واضحاً، هو تجريد الدعم السريع من حلفائه الجدد، وتهيئة المسرح لصدام وشيك، حيث يصبح حميدتي وحيداً في مواجهة “الدولة” ومليشياتها ومؤسساتها وخصومه المدنيين والعسكريين.وهكذا، انقلب المشهد رأساً على عقب.
الطرف الذي رفض قمع الثورة، صار يُتهم بالانقلاب عليها.والذين كانوا جزءاً من النظام البائد، أصبحوا حلفاء المرحلة الجديدة.وأصبحت الحركات المسلحة، التي حملت السلاح ضد المركز يوماً، أداة في يد هذا المركز نفسه، لمحاصرة شريكها السابق في اتفاق السلام.
(في الحلقة القادمة: حرب 15 أبريل… حين عاد المركز لخطابه القديم، واستُدعيت المليشيات القبلية لإكمال مهمة القتل الثالثة في دارفور!)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!