
لا شك أن السودان ولمدة سبعين عاما هيمنت عليه نخب مركزية بعينها ووظفت كل وسائل التعبير من إعلام وفن وأدب لفرض هيمنتها سياسيا وثقافيا، ومن المعروف أن الوجدان القومي والعقل الجمعي و الانتماء تشكله المحمولات الثقافية والتاريخ المشترك والمناهج الدراسية ووسائل الإعلام التي هي أيضاً في الغالب تكون قناةً لضخ مواد ثقافية ومعرفية ومن يسيطر ثقافيا تسهل عليه السيطرة السياسية والعسكرية لأنه بالثقافة يكون قد أنشأ الوجدان القومي والولاء وفقاً لرؤيته وتحيُّزاته الخاصة، وهذا ما يجعل اليوم كثيرا من أبناء غرب السودان يستخدمون من قبل المزكر النيلي لقتل إخوانهم وأبنائهم ويعود السبب في أن النماذج والمُثُل العليا للوطنية والقومية تُمليها رؤيةُ دولة ست وخمسين العنصرية وهؤلاء يمارسون دورهم الوطني وفقًا لما أملته دولة ست وخمسين من مواد ثقافية و تاريخ وطني مزيف حيث ترسخ لديهم بتلك الآليات مفهوم الوطنية والقومية وهي مفاهيم متحيزة للنخب المركزية ومعادية للهامش ، فهي قومية لا يتساوى فيها الجميع إذ لا تمارس الديمقراطية الثقافية ولا تراعي التعدد، بل تُعلي ثقافات بعينها على أخرى وترسم عن أهل الهامش صورا نمطية منفرة فيها من السخرية ما فيها، أضف إلى ذلك ما تقوم به وسائل الأعلام لا سيما الدراما من تهكم بلغات ولهجات محلية، وما تنتجه من تصورات ساخرة عن بعض المجتمعات، كل ذلك يُمرر عبر الأجهزة الإعلامية ليقتل انتماء الفرد لمجموعته ويجعله مسلوبا ثقافيا ومنتميا للثقافة القومية التي في باطنها ليست قومية إنما هي تخص فقط المزكر النخبوي الذي استولى على كل شيء، وبهذا تكون ولاءات الفرد ضد مجتمعه ويسهل على الدولة استخدامه ضد مجتمعه أو ضد مكونات أخرى داخل كما يحدث الآن في هذه الحرب وحرب الجنوب وجبال النوبة ودارفور 2003 .
فالدولة السودانية لم تكن يوما واقفة موقفاً محايداً من مكوناتها بل كانت على الدوام متحيزة لفئات بعينها، على حساب الآخرين حتى على مستوى تدريس التاريخ في المدارس فتجد في تدريس السودان القديم التركيز فقط على ممالك النيل ونسيان سلطنات دارفور وكردفان كسلطنتي الفور في شمال دارفور وشمال كردفان وسلطنة الداجو والمساليت وتقلي ..ألخ .يتم عدم ذكر هذه السلطنات والتركيز على الشمال وجعله هو فقط ما يمثل تراثنا وتاريخنا القومي الذي يجب أن نفتخر به ومن هنا يجد إنسان الهامش نفسه مفرغا من محمولاته الثقافية وتراثه ـ خصوصا إذا لم يعش في بادتي كردفان ودارفور أو النيل الأزرق- فيكون بذلك منقطع انقطاعا تاما عن جذوره الثقافية. فهو لا يرى شيئا من تاريخيه ولا يجد في الإعلام ما يمثل مجتمعه سوى تمثيل ضئيل وقد يكون تمثيلاا خاطئا بعيدا كل البعد عن الصورة الحقيقية، إذ يعرض الإعلام إنسان الهامش كثيراً في صور تختزله في الحماقة والجهل والتخلف، فكل هذه العوامل تساعد الدولة في قطع الإنسان من جذوره وإبدال جذوره بقومية زائفة وهي بذلك تضمن كسب طاعته ولاءه لها ، فتستطيع تسخيره متى ما شاءت وكيفما شاءت .
يمكنك اليوم أن تسمع أغاني من وسط السودان أو شماله في دارفور أو كردفان في المحلات العامة والمواصلات وتجدها منتشرة بين الناس . ولكنك قل أن تجد فنانا من غرب السودان مسموعا في تلك المناطق، لا لأن الغرب ليس به فنانون ولكن الدولة يسرت لأولئك أسباب الظهور والانتشار وصعبت على هؤلاء طريق الشهرة. لهذا السبب تفاجأ أهل الشمال والوسط في هذه الحرب بجمال الأغنية الدارفورية والكردفانية ورقصاتهم مثل المردوم وفتوته وام ردس والكاتم والدراجو والقيدومة والسنجك وقد نالت إعجابهم حتى قال بعضهم ( نسمع أغانيكم وشكلتنا في مكانها). كل هذا يبين غياب الحوار الثقافي في السودان وممارسة الدولة للديكتاتورية الثقافية وطمسها وتهميشها لكثير من الأنساق الثقافية، ما أود أن أقوله أن ( الفلنقاي أو الفلقنة) حتمية ثقافية فرضها النسق العام لمكونات القومية السودان حتى يتسنى لحكوماته العنصرية جعل الجميع فلنقايات وتوظيهم وفق خطط الحكومة، ولكن حال دون ذلك اختلاف استجابة الناس من شخص لشخص فتجد هذا سريع الاستجابة وهذا بطيء وهذا متمرد على النسق العام، لذلك حافظت المجتمعات المهمش على تراثها وثقافاتها .
لا أقول أن تراث غرب السودان وتاريخيه مغيب بشكل كلي في المشهد، ولكنه لم يعط حقه الكافي فظهوره قليلا مقارنة بغيره وفي أحايين كثيرة يظهر بشكل سخرية وأنماط منفرة في التمثيل بشتى أنواعه والنكات التي وإن ظهرت بطريقة عفوية وبرئية إلا أنها في داخلها موجهة وتحمل أغراضا سياسية.
في الرموز الفنية مثلا تجد محمد وردي، وجعفر السقيد وأغاني الطمبور وكثيرا من فناني مناطق المركز النخبوي حاضرين بقوة في الإذاعة والتلفزيون أكثر من غيرهم فتلقائيا إذا أردت أن أفتخر بالإبداع الفني في السودان فإني لن أجد سوى الأغنية التي تلك مكنتها وكرستها آلات الأعلام ولن أتذكر أغاني الدرملي والسنجك والجراري وغيرها لأن تلك لم تنل حظها الكافي من الرواج في وسائل الإعلام خصوصا إن لم أعش في بوادي غرب السودان فسأكون خال الذهن عن تراثه.
أما على مستوى الأدب فلم يكن لأبناء الغرب حظا كافيا كذلك من الظهور فأغلبية الروائيين على جودة مستوى كتاباتهم ظلوا في الظل بل حُوربوا من قبل الحكومة كأبكر آدم إسماعيل. وإبراهيم أسحق الذي يعد من عمالقة الرواية العربية ولكن من يذكر ذلك، فهو غير معروف لدى الأغلبية ولم ينل نصف ما ناله الطيب صالح من شهرة.
وفي الشعر تجد غيابا شبه تام لقصيدة غرب السودان عاميةً كانت أم فصيحةً، وهذا ليس لأن الغرب ليس به شعراء فهم كثر وفيه من ضروب الشعر الشعبي ما فيه، ولكن مع ذلك فهو شبه غائب عن المشهد العام، وأذكر في هذا المقام قصة محمد مفتاح الفيتوري شاعر إفريقيا والعروبة ابن غرب دارفور تحديدا الجنينة فهذا الشاعر على ضخامة اسمه لم أجد له في المنهج السوداني سوى قصيدة واحدة وأضف إلى ذلك أن الحكومة السودانية سلبت منه الجنسية السودانية وحرمت عليه الأراضي السودانية.
يجب ألا تنحاز الدولة لثقافة معينة وتهميش أخرى فعليها أن تقف في الحياد وتكون غير حاملة لأي صبغة دينية أو عرقية، فتكون سودانية لكل السودانيين بشتى أعراقهم وأديانهم، كما يجب تبنى جسورا ثقافية بين مكونات المجتمع السوداني وأن يكون هناك حوار بين أنساقه المختلفة، وأن تحارب كل مظاهر الاختزال والتنميط الثقافي وأن نحاول رفع اللغات المحلية واللهجات الشعبية إلى السطح حتى نبني هوية متماسكة شاملة تكون مرآة صادقة يرى كل سوداني فيها نفسه .