رأي

إيران بعد وقف الضربات: اختبار الدولة لا النظام

نجم الدين دريسة

تطل أسئلة ملحة برأسها عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف العمليات العسكرية بين اسرائيل وإيران، بعد نحو أسبوعين من التصعيد الحاد الذي شمل ضربات دقيقة استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية حساسة. ومع أن الحرب لم تُسفر عن انتصار حاسم لأي من الطرفين، إلا أن ما حدث قد يشكل نقطة تحول استراتيجية، تُختبر فيها قدرة الدولة الإيرانية— ليس فقط النظام الحاكم—على الانسحاب من بؤر الصراع والتصعيد، والاتجاه بدلاً عن ذلك نحو الداخل، لا من باب الانكفاء بل عبر مقاربة عقلانية ترسم مستقبلًا أكثر إشراقًا للشعب الإيراني.

الضربات التي نفذتها إدارة ترامب لم تكن مجرد استعراض للقوة، بل رسالة سياسية واضحة: العالم لن يقف صامتًا إزاء استمرار إيران في نهجها النووي المتصلب، والذي ظل منذ أواخر السبعينيات قائمًا على عقلية “الصمود” التي تتحصن خلف سردية مقاومة الضغط الدولي، متجاهلة في كثير من الأحيان أنها تُعامَل كدولة مارقة تهدد الأمن والسلم الدوليين.

وفي ظل هذا المعطى الجديد، لا بد أن تعيد إيران النظر جذريًا في تعريفها للقوة؛ فلم تعد القوة في العالم المعاصر تُقاس بحجم الترسانة العسكرية أو النفوذ الإقليمي فقط، بل أصبحت مشروطة بمدى قدرة الدولة على إنتاج نموذج تنموي فعّال، ينعكس على حياة مواطنيها وشرعية نظامها. بمعنى آخر: القوة الحقيقية اليوم هي قوة الاقتصاد، والتعليم، والعدالة، والحكم الرشيد.

لقد دفعت إيران، وشعبها بالأساس، كلفة باهظة لتبني خيار التموضع في خانة الصراع الدائم. فالعزلة الدولية، والتدهور الاقتصادي، وتدهور ثقة المواطن في دولته، كلها ملامح لأزمة بنيوية سببتها سياسات النظام الذي راهن على تراكم القوة العسكرية لا التنموية، وصدر العنف والحروب بدل أن يستثمر في بناء الإنسان.

ومع أن هذا النهج أكسب طهران نفوذًا تكتيكيًا في بيئات راديكالية محددة، إلا أن الثمن كان باهظًا على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي. وان محصلة نحو خمسين عامًا من التوترات، لم تنتج دولة قوية بمقاييس العصر، بل نظامًا أنهك مواطنيه، وخلق من إيران مصدر قلق إقليمي ودولي دائم.

لقد شهد التاريخ الحديث تحولات مشابهة لدول كانت غارقة في الصراعات والحروب ثم اختارت بإرادتها السياسية التحول نحو التنمية، فصنعت لنفسها مكانة جديدة على خارطة العالم. خذ مثلًا فيتنام، التي خرجت من حرب مدمرة مع الولايات المتحدة، لتصبح اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في جنوب شرق آسيا، بفضل توجهها نحو التصنيع والانفتاح على الأسواق العالمية. أو كوريا الجنوبية، التي كانت في خمسينيات القرن الماضي من أفقر دول العالم، لكنها اختارت أن تستثمر في التعليم، والبحث العلمي، والتكنولوجيا، فتحولت إلى قوة اقتصادية وصناعية عالمية.

هذه النماذج لم تتخلّ عن خصوصيتها الثقافية، لكنها فهمت أن بناء الدولة لا يتم عبر الصراع الدائم أو استعداء العالم، بل عبر تحقيق التوازن بين السيادة والانفتاح، بين الهوية والمصالح. وإذا أرادت إيران أن تخرج من نفقها المظلم، فلن يكون ذلك بالعودة إلى خطاب الثورة والعسكرة، بل باعتماد خطاب الدولة والتنمية، وإعلاء صوت المواطن على صوت البندقية.

إن اللحظة التي تفرضها التطورات الراهنة، تضع إيران أمام اختبار مفصلي، هل تنجح في التحول من عقلية الثورة إلى منطق الدولة؟ وهل تلتقط هذه الفرصة لإعادة ترتيب أولوياتها، والتأسيس لمشروع تنموي شامل يجعلها قوة ناعمة فاعلة، بدل أن تبقى رهينة مشروع تصدير الثورة الذي شارف على نهايته؟

الإجابة عن هذه الأسئلة ليست فقط مسؤولية النخبة الحاكمة، بل مسؤولية مجتمع بأكمله قرر منذ زمن أن يتحمل الأثمان، وقد آن له أن يجني الثمار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!