سقوط الأقنعة؛ عندما قُتلت دارفور مرتين (!) .. الطرق الملتوية تُطيلُ الرحلة وتُجهد الراحلة (٤-٥)
عباس احمد السخي

الحلقة الرابعة: تحييد الحركات المسلحة… من شراكة السلام إلى أدوات المعركة
حين تُستدرج البنادق إلى الفخ، ويُخدع الحلفاء بمقاعد السلطة!
مع اندلاع الحرب في 15 أبريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وجدت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا نفسها في موقع بالغ الحساسية. فقد كانت هذه الحركات – التي رفعت السلاح لعقود في وجه المركز مطالبة بالعدالة والتنمية وتقاسم السلطة – شريكاً في الحكومة الانتقالية، ورافعة سياسية هامة ضمن اتفاق رعاه الجنرال محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع نفسه. لكن مع تصاعد المعارك وتبدّل المواقع، دخلت هذه الحركات مرحلة جديدة من الضغط والمساومة، رسم فيها المركز طريقاً واضحاً لتحييدها أولاً، ثم دفعها إلى مربع المشاركة في الحرب ثانية.
في البداية، لجأت سلطة المركز إلى تكتيك ناعم عنوانه الالتزام باتفاق جوبا، وهو ما أتاح للحركات المسلحة الاحتفاظ بمقاعدها التنفيذية ومخصصاتها المالية في الحكومة، رغم الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة. هذا الإبقاء على الوضع القائم لم يكن احتراماً للاتفاق بقدر ما كان محاولة لشراء الوقت، بانتظار ما ستسفر عنه المعركة، وما إذا كانت موازين القوى ستفرض على هذه الحركات الانحياز إلى أحد الطرفين. أدركت نخبة المركز أن الحياد – مهما طال – لن يدوم، لكنّه كان ضرورياً مرحلياً لحين إنضاج المعادلة الجديدة.
لم تدم مرحلة التحييد طويلاً، فقد بدأت الدولة العميقة، ومعها الآلة الإعلامية التي تديرها بذكاء، في شن حملة هجومية مدروسة ضد الحركات المسلحة. رُفعت شعارات تهاجم “شركاء السلام” واصفة إياهم بأنهم يستنزفون الدولة دون أن يدفعوا كلفة الحرب، وتحوّل الخطاب إلى اتهامات مباشرة بالانتهازية والارتزاق. وُضعت الحركات تحت ضغط الرأي العام، وجرى تصويرها كمستفيدة من السلطة دون أن تكون مستعدة للدفاع عنها. في خلفية هذه الحملة، كانت تُمرر رسائل واضحة؛ إن لم تلتحقوا بالميدان، فأنتم خونة أو متواطئون أو على الأقل مترددون في ساعة الحسم.
تزامنت هذه الحرب النفسية مع تنفيذ خطة مزدوجة استخدمت فيها سلطة مركز استراتيجية العصا والجزرة. أما العصا فكانت التهديد بفقدان الشرعية السياسية، من خلال تسريبات عن احتمال تجميد نصيب الحركات في مؤسسات الدولة، وإنهاء التزامات اتفاق جوبا، وربما ملاحقة بعض قادتها بتهم الفساد أو الإخلال بالواجب الوطني. وأما الجزرة فكانت الإغراءات المالية والعسكرية المباشرة، من ملايين الدولارات إلى معدات وامتيازات لوجستية، في مقابل إعلان واضح بالانحياز للجيش في معركته ضد قوات الدعم السريع. قُدمت هذه العروض لبعض القادة بطرق ناعمة، وأحياناً مباشرة في اجتماعات مغلقة، وأخرى عبر وسطاء يتبعون للمركز أو متنفذين في الدولة العميقة.
في الأثناء، جرى استدعاء خطاب الكراهية الذي ظل كامناً في أرشيف الدولة المركزية، فجرى التلويح من جديد بأن الدعم السريع مشروع عشائري يهدد مستقبل الإقليم، وأن الحركات التي لا تواجهه الآن ستجد نفسها مطاردة غداً من ذات القوى التي ساعدتها على الوصول إلى الخرطوم. خُيّرت هذه الحركات بين فقدان مواقعها السياسية، أو المشاركة في معركة قد تضمن لها حضوراً مستقبلياً، ولو على حساب مشروعها التاريخي.
وهكذا، وبموجب إعلان رسمي، دخلت الحركات المسلحة ممثلة جماعتي مناول وجبريل ساحة الصراع، لا استجابة لقناعة مبدئية، بل بفعل الضغط والإغراء والتخويف. انزلقت هذه القوى، التي طالما نادت بالهامش والعدالة، إلى محور قتال تخلى عن كل ما كانت ترفعه من شعارات. تحوّل المقاتل الثائر إلى طرف في حرب النظام ضد الهامش، وتحولت البنادق التي كانت موجهة إلى صدر المركز، إلى أدوات لضرب خصم جديد صنعه ذات المركز.
لكن حين تُستخدم الحركات كأدوات مرحلية، وتُسحب إلى مستنقع الحرب بدلاً من أن تُستبقى شريكاً في بناء السلام، فإن السؤال لا بد أن يُطرح: ماذا جنت هذه الحركات مقابل ما خسرته؟ وماذا بقي لها من مشروعها السياسي؟
هذا ما سنقف عنده في الحلقة الأخيرة.
(الحلقة الخامسة: جرد حساب… ما الذي جنته الحركات المسلحة من اصطفافها خلف المركز؟)