رأي

عودة لوسيفر

منال علي محمود

في الوقت الذي تُقصف فيه حواضن دارفور، وتُجرف منازل الفقراء بفرية محاربة “السكن العشوائي”، تُحسم الصفقات في الغرف الخلفية، وتُرسم ملامح المشهد السياسي من جديد، بأيدي نفس من أشعل هذا البلد من قبل. يُعاقَب المهمشون في دارفور لمجرد وجودهم، بينما يُكافأ القتلة في الخرطوم على قدرتهم على المناورة.

وفي قلب هذا التناقض، عاد الإسلامويون – لا متخفيين هذه المرة، بل برايات مرفوعة وخطاب وقح، كأن الثورة لم تكن، والدم لم يُسفك، والبلد لم يُحرق.

عادوا لأن حكومة برهان وكمييل على وشك التشكيل. لحظة اقتضت رفع الأقنعة، وحضور إبليس نفسه، لا أحد خُدّامه. عادوا لأن الزمن القادم هو زمن تكسير العظم، والنقطة التي لا عودة بعدها، وهم يدركون أن في السودان، نصف فرصة قد تفتح ألف باب.

لم يعودوا عبثاً. عادوا بأموال، وشبكات، وحس بارد بالتوقيت. لم يعودوا ليحكموا بل ليُجهزوا على ما تبقى. لا أقنعة، لا تكتيك ناعم. عادوا بشعارات الأمس، ووجوه الجرائم القديمة، وآلتهم الإعلامية والتنظيمية المجرّبة.

أمام هذا الطوفان، ماذا فعلت القوى السياسية الأخرى؟ هل توحد صمود التأسيس؟ هل أدركوا أن المعركة وجودية ولا تحتمل التردد؟ أم لا يزال كل طرف يتمسك بخطرفاته، ناسياً أن السلام يجب أن يجمعهم كما جمعت الحرب أعداء الوطن من قبل؟

الإسلامويون لا يثقون بأحد. يستدعون القرآن حين يُضيّق عليهم، ويغدرون به عند أول باب يُفتح. كما قال تعالى:

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)

فأين نحن من قوله:

(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)؟

هل اختُزل الإعداد في المؤتمرات الفاشلة والبيانات الباهتة؟

وفي هذا الفراغ، جاءوا كالرغوة: لا تثبت على أرض، لكنها تخنق.

اختاروا توقيتهم بعناية، مستغلين انشغال العالم بحرب إسرائيل وإيران. إنها مهارة يتقنونها: أن يضربوا حين تبتلع الحروب الأخرى العناوين، وحين يُترك السودان بلا حارس.

استغلوا اللحظة، ودفعوا بأحد أزواج السفيرة أميرة قرناص ليتصدر ما يسمى بـ”التيار الإسلاموي العريض”. لا رجل المرحلة، بل صدى باهت لماضٍ دموي.

والمفارقة الأقسى، أن الانتقائية لا تبلغ ذروتها إلا حين يكون “الغرب” طرفًا في المعادلة. فحين يُستدعى الغربُ السوداني — لا كمنطقة بل كإنسان — يُستدعى إلى الصفوف الأمامية، حيث الموت هو النصيب، والمجد يُنسب لغيره.

المقاتل القادم من جبل مرة أو قريضة لا يظهر في نشرات الأخبار، إلا حين يكون محمولاً على نقالة، أو محشورًا في تقرير عن “بطولات مجهولة”. منزله يُجرف، عائلته تُهجّر، وذاته تُمسح من الذاكرة الجمعية، فقط لأنه لا يملك ملامح تُرضي ذوق التلفزيون الرسمي، ولا اسماً يمكن وضعه على تذكار أو نصب.

يقاتل بينما يبكي في الخفاء، لأن صوته لا يُسمع، وصورته لا تُعرض، ودمه لا يُؤرخ. يلتقط صورة بيته المدمر من شاشة هاتف مكسور، ويحتفظ بها كوثيقة شخصية، لأن لا أحد سيعرضها في نشرة التاسعة. ففي عرف الدولة، هو مجرّد “أداة” في حرب عبثية، لا مواطن له حقوق، لا إنسان له ظل.

هم لا يرونه فردًا، بل وظيفة: “حارب ثم اختفِ”. إن متَّ، فأنت شهيد صالح لقصيدة، وإن نجوتَ، فأنت عبء يجب أن يعود إلى المخيم، أو إلى أطلال القرية التي كانت.

قاتل واختفِ. واظهر رقماً يشعل وقود الحرب، مثل عثمان المظللي، الذي قُتل بأيدي رفاقه، وقيل إنه شهيد.

لكن اللحظة الحالية ليست لحظة شعارات، بل لحظة موقف. لحظة حساب.

فما يُسمى بـ”التيار العريض” ليس تيارًا سياسيًا، بل فيروس قديم عاد ليُتمّ مهمته.

كما قال فرانز فانون:

“على كل جيل أن يكتشف مهمته في غموضه النسبي، إما أن ينجزها، أو يخونها.”

لقد سئمنا انتظار المجتمع الدولي. لن ينقذنا أحد. لا أحد سيحمل عبء دارفور، أو جبال النوبة، أو النيل الأزرق، أو حتى الخرطوم… سوانا.

إن سمحنا لهم بالعودة دون مواجهة، سنجد أنفسنا ذات يوم نُخبر أبناءنا أن الماضي لم يكن، وأن الجريمة لم تُرتكب، وأن الكذبة أصبحت الحقيقة.

كما قال جورج أورويل:

“تمّ محو الماضي. نُسيَ المحو. وأصبحت الكذبة حقيقة.”

manal002002@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!