
لا يختلف اثنان على أن ما يمر به السودان اليوم هو واحدة من أكثر المحن قسوة في تاريخه الحديث. حرب طاحنة مزقت البلاد و العباد، و شردت الملايين، وأخرجت الدولة من الخدمة. لكن وسط هذا الدمار الواسع، يلوح في الأفق سؤال لا يقل أهمية عن وقف إطلاق النار: هل يمكن لهذه الكارثة أن تكون فرصة لبناء سودان جديد على أسس مختلفة؟ هل يمكن أن نستل من الألم وعيًا يقود إلى ميلاد مشروع وطني جامع؟
العودة إلى ما قبل الحرب لم تعد خيارًا ممكنًا ولا مقبولًا. السودان الذي انهار أمام أعيننا كان هشًا، مركزيًا، مغلقًا على فئة ضيقة، ويقوم على توزيع غير عادل للسلطة والثروة. لقد سقطت الدولة، نعم، ولكنها لم تكن دولة عادلة أو جامعة أصلًا. لذلك، لا يجب أن تكون نهاية الحرب مجرد محاولة لترميم ما كان، بل لحظة تأسيس لما يجب أن يكون.
ما كشفته الحرب من اختلالات لم يكن جديدًا، لكنه صار عاريًا هذه المرة. القبيلة تحولت إلى حماية، والسلاح صار سلطة، والمؤسسات تحللت أمام أول أزمة. المواطن السوداني أدرك بوضوح أن دولة بدون عدالة لا تصمد، وأن وطنًا لا يُبنى على التعدد والمساواة لا يُكتب له البقاء.
ورغم هذا الخراب، فإن ما يلفت الانتباه حقًا هو تلك الحيوية التي أبداها الناس العاديون في غياب الدولة. لجان المقاومة، المبادرات المجتمعية، النساء في مراكز النزوح، والشباب الذين نظموا الإغاثة فى التكايا من لا شيء، كلهم جسّدوا جوهر المشروع الوطني الغائب: العمل من أجل الناس، لا باسمهم. من هنا يمكن أن تبدأ النواة الحقيقية للتغيير.
والحرب التي كسرت ظهر الجيش والمؤسسات، كسرت معها أيضًا “هيبة العسكر” في أذهان الناس. السودانيون اليوم أكثر وعيًا بأن الحل ليس في البندقية، بل في صناديق الاقتراع، في الحكم المدني، في الدستور الذي يضع حدًا للتسلط باسم الأمن. هذا التحول في الوعي الشعبي هو كنز لا يجب أن يُهدر.
لكن لا يمكن الحديث عن مشروع وطني جديد دون مواجهة الماضي. لا سلام حقيقي دون مساءلة، ولا استقرار دون اعتراف بالأذى. العدالة الانتقالية ليست ترفًا، بل أساس لبناء الثقة من جديد. المطلوب ليس الانتقام، بل كشف الحقيقة، ورد الاعتبار، ومنع التكرار.
والمعادلة الكبرى تبقى في الإرادة السياسية. فبدون إرادة صادقة، تضع الوطن أولًا، لا الأحزاب ولا الطموحات الشخصية، ستظل كل الأفكار مجرد شعارات. وربما لا تأتي هذه الإرادة من النخب الحالية التي خذلت شعبها مرارًا، بل من جيل جديد يتكوّن الآن في معسكرات النزوح، في ساحات التطوع، في خنادق الصبر والإبداع وسط الخراب.
السودان أمام لحظة نادرة، مخيفة ومليئة بالأمل في آنٍ واحد. فإما أن نغتنم هذه الفرصة لبناء وطن يعترف بالجميع، أو نعود مرة أخرى إلى دوامة التهميش، والتمرد، والانفجار. ما بعد الحرب يجب أن يكون بداية، لا نهاية.
فهل نملك الشجاعة لبناء وطن من جديد… من قلب الحطام؟