
كم أسعدني أن أرى العقوبات الأميركية تنهال أخيرًا على السلطة العسكرية الانقلابية الجاثمة على صدر السودان من بورتسودان. نعم، أسعدني ذلك، جدًا؛ فالعقوبات، إذ تُفرض، لا تُوجَّه إلى السودان الوطن، ولا إلى سودان الشعب، بل إلى معسكر العسكر والكيزان، ذلك الكهف المغلق على الخيانة، الذي حوّل الوطن إلى وكر للجريمة.
إن قصف شعب أعزل بأسلحة كيميائية، وبهذه الوحشية التي لا مثيل لها في العالم – والتي لم تستخدمها إسرائيل ضد إيران، ولا إيران ضد إسرائيل- ويستخدمها جيش ضد شعبه، ليس مجرد سقوط في الوطنية والأخلاق والفطرة، بل في المعنى ذاته لكلمة (وطن). فلا حديث عن دولة أو وطن حين يصبح الغاز القاتل أداةَ حكم، والسلاح الكيميائي الفتّاك وسيلةً لاقتتال داخلي. بل نتحدث عن غابةٍ تسودها وحوش بشرية لا يردعها رادع، في سبيل إقامة حيزٍ جغرافي يُقيمون عليه مملكة توحّش واستبداد كيزانية، يسمّونها زورًا وطنًا.
والجيش، الذي هو في كل العالم حارسٌ لوطنه ولسيادته ولنظامه الدستوري، انقلب على وطننا، وفرّط في سيادته، وانقلب على نظامه الدستوري، وأصبح حاميًا لمشروع الكيزان البائد، بل هو ذاته مشروع كيزاني بائد؛ يأتمر بأمرهم، يخوض حربهم، ويسير خلفهم في سباتٍ عقائديٍّ أعمى: يُلبّي فتاوى الدم، ويُنفّذ رغباتهم في الانتقام من الشعب الذي اقتلعهم، باسم السيادة!.
أيّ دولة وسيادة تلك التي تُبنى على جثث الأطفال والنساء وأنفاس المختنقين بالغاز المحرّم؟
ما أعلنته الحكومة الأميركية من عقوبات أمس، لم يكن افتراءً، بل شهادة دولية على سقوطٍ أخلاقيٍّ مريع: قرار استند إلى حقائق دامغة تُدين سلطةً عسكرية متلبسةً بالجرم، متحالفةً مع ميليشيات إسلامية تقودها كائنات ظلامية، عادت من بطن عهدٍ متعفّن بائد، لتشيّد فوق جماجم الأبرياء مجدًا زائفًا، وتستعيد بالحرب حكمًا شيّدته بالإبادة الجماعية وأسقطه الشعب إلى مزبلة التاريخ، ولن يعود.
لكن الحقيقة الأهم: أن هذه العقوبات الأميركية لم تكن لتصدر لولا أن سقط القناع عن تلك الطغمة العسكرية الانقلابية، بعد تحالفها مع إخوان الشياطين لإخماد صوت الشعب، ثم شنّ الحرب عليه. وها هي اليوم تدفع الثمن، وستدفع غدًا ثمنًا أكبر، حين ينهض السودان بكل قواه الحيّة، بكل شهدائه وجرحاه وشبابه وأبطاله، ليقول: لا، لا لقتل شعب السودان، ولا لإبادة أهل دارفور، ولا لعودة الكيزان. وهو يوم قريب، قريب جدًا.
نعم، أسعدتني العقوبات الأميركية، ولكن ما لم يُسعدني أنها لم تأتِ بقدر فداحة الجريمة. إنها صفعة مطلوبة، لكنها صفعةٌ دون مستوى الصفاقة، ولا تليق بحجم المقبرة المفتوحة في كل أرجاء السودان. والرد العادل لا يكون بالعقوبات وحدها، بل بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، وتجريد الجيش من قدسيته الزائفة، ومحاكمة قادة الميليشيات والكتائب الإسلامية، ومطاردتهم، واجتثاث الكيزان فرادى وجماعات، واقتلاعهم من مفاصل الجيش وقيادات الأجهزة الأمنية والشرطية، فهم كما الورم الخبيث في الجسد؛ كلما بقوا، نخروا العظم، وأزهقوا الروح.
نعم، العقوبات الأميركية خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن أين المحاكم الدولية؟ أين الضمير العالمي حين يُستعمل السلاح الكيميائي في القرن الحادي والعشرين ضد مدنيي وطنٍ مفكك مرهق على وشك الضياع؟
لقد آن أوان الحقيقة: لا شرف لجيشٍ يحتمي بالكيزان والمرتزقة، ولا بقاء لحكمٍ يستبيح الكيمياء في أرضٍ تحترق. هذه العقوبات ليست نهاية، بل بداية طريقٍ طويل نحو محكمة التاريخ؛ محكمة لا تسقط فيها الجرائم بالتقادم، ولا يُقبل فيها اعتذار القتلة.
*والشعب، مهما طال ليله، لا ولن ينسى من سمّمه*.