
في واحدة من أكثر اللحظات تعقيداً في تاريخ السودان المعاصر، برز الدور الإماراتي بوصفه نموذجاً مختلفاً في التعاطي مع الأزمات، لا يعتمد على الشعارات ولا يستند إلى الحسابات الآنية الضيقة، بل يُبنى على رؤية استراتيجية تنظر إلى السودان لا كملف أمني أو ساحة نفوذ، بل كدولة لها جذور في التاريخ، وتستحق أن تخرج من نفق الحرب نحو فضاء السلام والتحول الديمقراطي. العلاقة بين الإمارات والسودان لم تُختزل يوماً في الدعم الإنساني وحده، رغم ضخامته وتوقيته الحيوي، وإنما تمظهرت في نهج متكامل يدمج بين الإغاثة والتنمية، بين الوساطة السياسية والتوازن الإقليمي، بين دعم الداخل السوداني واحترام إرادته.
الإمارات بخبرتها العميقة في بناء الدولة وتفكيك الأزمات، التقطت مبكراً أن ما يجري في السودان ليس مجرد تنازع على السلطة أو اضطراب انتقالي، بل أزمة مركبة أنتجتها عقود من التهميش البنيوي والفشل السياسي والانقسامات التي تغذت على توازنات الخارج ، لذلك لم تطرح الإمارات حلولاً سطحية، ولم تسع إلى استنساخ نماذج جاهزة، بل راهنت على مسار سوداني خالص، يقوده السودانيون أنفسهم، مع دعم صادق من شركاء يؤمنون بأن استقرار السودان ضرورة لا خيار.
هذا الدور تجلى بوضوح في المراحل المفصلية، حين اندلعت الحرب وتفككت الدولة المركزية، وحين اختنق المواطن السوداني بين شظف النزوح وانسداد الأفق ، كانت الإمارات من أوائل الدول التي بادرت إلى إرسال المساعدات عبر جسر جوي متواصل، واستحداث مراكز إغاثة على الأرض، وتقديم دعم إنساني فعال يلامس احتياجات الناس الحقيقية، دون تسييس أو ابتزاز أو مشروطيات ، لكنها في ذات الوقت لم تختزل الأزمة في بعدها الإنساني، بل دعمت بقوة مبادرات وقف إطلاق النار، وأبدت انفتاحاً على كل مسعى يدفع نحو حل سياسي شامل، بما في ذلك استضافة أو دعم الحوارات السودانية السودانية خارج أجندة الاستقطاب الإقليمي.
ما يُحسب للإمارات أيضاً أنها لم تتعامل مع السودان كأرض خام لمصالح اقتصادية أو طموحات أمنية، بل نظرت إليه كبلد غني بالموارد والبشر، يستحق أن يكون شريكاً لا تابعاً، وشهدت السنوات الماضية تدفقات استثمارية إماراتية في قطاعات الزراعة والطاقة والخدمات، صُممت لتكون جسراً نحو استقرار طويل المدى، لا مجرد عمليات إنقاذ ظرفية ، إنها رؤية تنموية عميقة، تنطلق من فهم جذور الأزمة، وتسعى لمعالجة المسببات لا النتائج فقط.
التحول الديمقراطي في السودان، كما تراه الإمارات، ليس حدثاً انتخابياً منعزلاً، بل مسار تراكمي يحتاج إلى مؤسسات قوية، ومجتمع مدني متماسك، وتوافق وطني حقيقي، وهذا ما يجعل الإمارات تدعم الحلول السياسية المتزنة، وتفتح قنواتها أمام كل من يضع مصلحة السودان فوق أجندته الخاصة ، في وقت انزلقت فيه قوى أخرى نحو صناعة الوكلاء، وتمويل الانقسامات، وفرض نماذج أيديولوجية، حافظت الإمارات على حياد فعال منحها احتراماً متزايداً داخل الشارع السوداني، خاصة بعد أن خاب رجاء كثيرين في اللاعبين التقليديين.
إن الرهان الإماراتي على السودان لا يقوم على العاطفة ولا على الحسابات المؤقتة، بل على قناعة راسخة بأن السودان إذا استقر ونجح في بناء دولته، سيكون عنصراً فاعلاً في الإقليم ومصدراً للتوازن، وشريكاً في التنمية، لا عبئاً أمنياً أو ساحة اضطراب مزمنة هذه الرؤية تحتاج إلى صبر وتراكم وشركاء عقلاء، وهو ما جسدته أبوظبي بكل وضوح في تعاملها مع الأزمة السودانية.
في زمن تتكاثر فيه الحسابات الضيقة، وتتشظى فيه المواقف، يصبح وجود شريك مثل الإمارات ضرورة لا ترفاً ، شريك لا يكتفي بالتضامن، بل يمضي إلى الفعل، ولا يختبئ خلف التصريحات، بل يشتغل على الأرض، ويستثمر في الناس كما يستثمر في البنية والفرص ، وهذا ما يمنح الأمل بأن السودان رغم ما يمر به لم يُترك وحده، وأن هناك من ما زال يؤمن بأنه يستحق فرصة أخرى.