رأي

«السودان بين الانهيار والمساءلة: إطار سياسي لبناء السلام وتأسيس الدولة تحت إشراف دولي»

منال علي محمود

«مقدمة»

في مشهد بالغ التعقيد، لم تعد الأسئلة تدور حول من سينتصر في الحرب، بل حول من سيفكك دولة التمكين الإسلاموي أولًا. الحرب في السودان اليوم ليست مجرد مواجهة مسلحة، بل لحظة فرز تاريخي بين قوى تشارك في صناعة المستقبل، وأخرى تسعى لحماية امتيازاتها بأي ثمن. هذه الورقة تقترح إطارًا سياسيًا مبنيًا على الواقع الميداني لا الخيال الدبلوماسي، يهدف لتأسيس دولة جديدة لا تُبنى على توازنات الحرب، بل على تفكيكها، وتُقاد بواسطة قوى ثورية حقيقية تمثل الأرض والميدان.

«أولًا: تشخيص طبيعة النزاع»

الجيش السوداني والدعم السريع كلاهما أدوات أنشأها النظام البائد، واستخدمهما لإجهاض التحول المدني، ثم انقلبت عليه واحدة، وتحالفت معه الأخرى.

القوى المشتركة، التي تضم حركات مسلحة من الهامش، تحولت لاحقًا إلى الجدار الأخير في معارك الجيش، لكنها لم تُمنح وزنًا سياسيًا يعادل ما قدمته من تضحيات.

الجيش، الذي ظل يحتكر السلطة والموارد، مارس الغدر السياسي مع كل من تحالف معه: من حميدتي إلى الحركات، إلى قوى الحرية والتغيير.

«ثانيًا: من يملك القوة الحقيقية على الأرض؟»

المعارك الفاصلة في دارفور ووسط السودان لم يُخضها الجيش النظامي، بل قوات القوى المشتركة.

انسحاب «المشتركة» من كرب التوم والمثلث في يونيو 2025، لم يكن هزيمة بل رسالة سياسية للجيش، مفادها: لسنا مرتزقة.

رغم التصريحات العنصرية ضدهم، والاقصاء من موارد الدولة، ظل قادة «المشتركة» يُعاملون كأدوات، وليس كشركاء.

«ثالثًا: الجيش ليس ضامنًا بل خطر وجودي»

المؤسسة العسكرية تعيش تصدعًا داخليًا: صراعات بين قادتها، تبعية لمحاور إقليمية، وتآكل في السيطرة.

تستقوي بالإسلامويين الذين يسعون عبرها للعودة إلى الحكم، وهو ما يجعل استمرارها بهيكلها الحالي خطرًا على أي سلام.

سلوك الجيش المتكرر في الغدر بحلفائه بعد كل تسوية (الدعم، نداء السودان، التغيير)، يؤكد أنه غير مؤهل لقيادة دولة.

«رابعًا: الاقتصاد الموازي… الدولة الحقيقية»

يسيطر الجيش على منظومة شركات الدفاع، والميناء، والمطار، وحقول الذهب.

يرفض دمج القوات لأنه لا يريد تفكيك اقتصاد الحرب.

في المقابل، تُمنع «المشتركة» من أي دور في إدارة الموارد، رغم أن جنودها يحرسون الأرض التي تُنهب منها.

«خامسًا: إعادة تعريف العلاقة بين الأطراف»

لم يعد مقبولًا وصف الجيش بـ”الوطني” في مقابل وصف الدعم أو المشتركة بالمليشيا. فالدعم السريع وحده أُنشئ بقرار سيادي، بينما القوى المشتركة تشكلت لاحقًا كتكتل ميداني، لكن كلا الطرفين تم استخدامهما من قِبل النظام القديم في تنفيذ أجندته.

«الدعم السريع» هو قوة أُنشئت بقرار سيادي واستُخدمت كذراع أمنية للنظام البائد، ثم حاول الجيش تصفيتها بعد انتهاء دورها. ورغم تورطها في الانتهاكات، فهي اليوم جزء من معادلة الهامش الذي يسعى لإعادة تعريف مكانه في الدولة. أما العلاقة بين «الدعم» و«المشتركة» فليست عداءً طبيعيًا، بل صناعة ممنهجة من قِبل الجيش لتفتيت أي تحالف هامشي.

التحالف الموضوعي بين «الدعم» و«المشتركة» اليوم هو أقرب طريق لتفكيك دولة التمكين.

«سادسًا: المسار السياسي الجديد»

يُبنى على برلمان شعبي تأسيسي تمثل فيه قوى الثورة، قادة الميدان، الهامش، النساء، والنقابات.

لا دور لأي من قادة الحرب الحاليين داخل السلطة الانتقالية.

يُمنح تمثيل حقيقي للقوى المشتركة داخل أجهزة الحكم الانتقالي والاقتصاد، وفقًا لدورها الميداني.

تُعاد صياغة القوات النظامية من الصفر، بدمج الأفراد غير المتورطين في جرائم، وتفكيك المنظومات الموازية.

«سابعًا: العدالة أولًا.. ثم السياسة للجميع»

لا يُقصى أحد على أساس الانتماء، لكن كل من شارك أو حرّض أو غطى جرائم الحرب يجب أن يُحاسب. يشمل ذلك تيارات الإسلام السياسي التي هندست المشروع الانقلابي، كما يشمل من تورط في الفساد والقتل والتطهير العرقي.

كل من يريد المشاركة السياسية عليه أن يفك ارتباطه بالعنف، يخضع للعدالة، ويعلن التزامه بالمواطنة والديمقراطية.

«سابعًا مكرر: النساء وبناء الدولة الجديدة»

رغم أن النساء السودانيات كنّ في مقدمة الصفوف خلال الثورة، وتحمّلن كلفة الحرب اقتصاديًا ومجتمعيًا، إلا أنهن يُقصين اليوم من معادلة السلطة بالكامل. يجب أن تُخصص مواقع فعلية للنساء في البرلمان التأسيسي، ولجان العدالة الانتقالية، وصياغة الدستور، ليس كمشاركة رمزية، بل كجزء من إصلاح حقيقي للمنظومة السياسية والاجتماعية التي همّشت المرأة لعقود.

«ثامنًا: التوصيات»

لا تسوية مع العسكر دون تفكيك المنظومة الاقتصادية.

لا تفويض للجيش في دمج القوات، بل لجنة مدنية مهنية.

تُشرف جهة إقليمية ودولية مستقلة على العدالة الانتقالية.

يُفكك التحالف بين الجيش والإسلاميين عبر ضغط مباشر على الدول الداعمة له.

تُمنح «القوى المشتركة» وضعًا سياسيًا موازيًا لدورها العسكري، وتحظى بحق المشاركة في صياغة الدستور والاقتصاد.

«ختامًا»

إذا انتظرت «المشتركة» طويلًا، وخضعت لتكتيكات الجيش في كسب الوقت، فستلقى مصير الدعم السريع بعد 2019. الجيش لا يحترم شريكًا إلا إذا فُرض عليه فرضًا.

اللحظة الراهنة هي الفرصة الذهبية لفك الارتباط مع مشروع الخراب، وإعادة تعريف التحالفات على أساس وطن لا يُدار من معسكر، ولا يُنهب من شركة أمنية.

«منال علي محمود»
الخرطوم – القاهرة
يونيو 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!