رأي

سقوط الأقنعة؛ عندما قُتلت دارفور مرتين .. الطرق الملتوية تطيل الرحلة وتجهد الراحلة (٥-٥)

عباس احمد السخي

 

الحلقة الخامسة: جرد الحساب الأخير… حين ذهبت الخسائر إلى حساب الدعم السريع (!)

الطرق الملتوية تُطيل الرحلة وتُجِهد الراحلة…
بعد عامٍ وأكثر من اندلاع الحرب، وبعد شهورٍ من إعادة التموضع، وسنوات من التفاوض، ودهور من المظالم، آن أوان جرد الحساب. ليس للأمنيات، بل للوقائع، لا للشعارات، بل لما جرى على الأرض. فالذي حدث بعد 15 أبريل، ليس مجرد معركة عابرة بين قوات الدعم السريع والجيش، بل هو الزلزال الذي كشف الفرز النهائي، لا فقط في موازين القوة، بل في موقع الأطراف من المعادلة الجديدة.
في هذا السياق، تبدو الحركات المسلحة – وعلى رأسها حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم – أكبر الخاسرين في معركة اختاروا فيها الاصطفاف إلى جانب المركز، لا من منطلق اقتناع بالعدالة أو المسؤولية الوطنية، بل حفاظًا على مواقع سياسية هشة، ومقاعد وزارية لم تعد تساوي شيئًا في ظل انهيار الدولة ومؤسساتها.
عمليًا، خاضت هذه الحركات الحرب ففقدت أغلب مقاتليها، وعتادها، ومناطق نفوذها. بل أن الحواضن القبلية التي طالما شكلت عمقها الاجتماعي والسياسي، تعرضت لتدمير ممنهج، سواء بالقصف الجوي المباشر من طيران الجيش، أو بالاشتباكات التي حوّلت قرى ومراكز دارفور الكبرى إلى ساحات حرب مفتوحة، لا ينجو فيها المقاتل ولا المدني. ملايين من سكان هذه المناطق نزحوا أو لجؤوا إلى دول الجوار، فيما تحولت مناطق الحركات المسلحة من قواعد سياسية إلى رماد متناثر.
أما القواعد العسكرية التي كانت تُشكل رمز السيادة العسكرية والسياسية لهذه الحركات، فقد فقدتها بالكامل لصالح قوات الدعم السريع، التي لم تكتفِ بالتقدم الميداني، بل حسمت وجودها بشكل شبه كامل في معظم ولايات دارفور، باستثناء أجزاء صغيرة من مدينة الفاشر ما تزال محل اشتباك.
في المقابل، بدا أن الدعم السريع خرج من هذه المواجهة – حتى اللحظة – بأكبر المكاسب. إذ نجح في السيطرة فعليًا على الإقليم بأكمله، وتحول على الأرض إلى سلطة كاملة الأركان، تحكم وتدير وتنسق، وتبني شبكاتها الخاصة. لم يقتصر تمدده على الجغرافيا، بل امتد إلى بُنية العلاقات، فدخل في تحالفات واسعة مع فصائل دارفورية مسلحة أخرى، وبنى معها شراكات ميدانية وسياسية، وكان إجلاء سكان الفاشر نموذجًا لقدرته على تنسيق التحركات الكبرى، بالاستفادة من تحالفاته الجديدة.
الأهم من ذلك أن الدعم السريع نجح في عقد اتفاق سياسي متقدم مع الحركة الشعبية – شمال/جبال النوبة، وهو ما بات يُعرف بـ”تحالف التأسيس”، الذي نقل الصراع إلى مستوى جديد، ومكّن قوات الدعم السريع من التمدد شمالًا، حتى منطقة المثلث الحدودي مع ليبيا ومصر، مما جعل وجوده العسكري يطوّق شمال السودان نفسه، ويعيد تعريف الجغرافيا السياسية للبلاد كلها.
المؤشرات الموضوعية تقول بوضوح: إن ما خسرته الحركات المسلحة من بشر وسلاح وأرض، ذهب مباشرة إلى رصيد قوات الدعم السريع. وإن حالة الانكشاف التي تعيشها هذه الحركات اليوم، تجعل من وجودها المستقبلي في الإقليم مشروطًا برضا القوة المهيمنة الجديدة، أو في أفضل الأحوال، خاضعًا لتوازنات ليست هي من يصنعها.
وإن حالة الانكشاف التي تعيشها هذه الحركات اليوم، تجعل من وجودها المستقبلي في الإقليم مشروطًا برضا القوة المهيمنة الجديدة، أو في أفضل الأحوال، خاضعًا لتوازنات ليست هي من يصنعها.
نعم، يشبه موقف الحركات المسلحة اليوم، وهي تقاتل إلى جانب سلطة المركز ضد الدعم السريع، إلى حد بعيد موقف أوكرانيا حين اختارت الاصطفاف ضد جارتها روسيا، لصالح تحالف بعيد مع القوى الغربية. وكما دفعت أوكرانيا ثمناً فادحاً لتحالفها غير المتوازن، كذلك وقعت الحركات المسلحة في خطأ استراتيجي حين تجاهلت أن الجار – مهما كانت معه خلافات – يظل أقرب في الجغرافيا والمصير من مركزٍ لم يقدم لها غير الاستخدام المؤقت والتوظيف السياسي. فقد أغفلت هذه الحركات أن الضرر الناجم عن فتح جبهة عداء مع الدعم السريع – وهو القوة التي تشاركها الأرض والناس والميدان – لا يمكن تعويضه عبر تقارب مصلحي قصير الأجل مع سلطة المركز.
تماماً كما أن أوكرانيا وجدت نفسها في نهاية المطاف بلا أرض آمنة ولا سلام دائم، رغم كل وعود الغرب، وجدت الحركات المسلحة نفسها أمام واقع مرّ: لا هي كسبت المعركة، ولا ضمنت بقاءها، ولا احتفظت برصيدها السياسي أو الاجتماعي. لقد تعمقت الكراهية بينها وبين القواعد الاجتماعية التي تشاركها الجغرافيا والمصير، وتلاشى التعاطف معها في الأوساط الشعبية، وبدلاً من أن تكون جزءاً من الحل، أصبحت جزءاً من المشكلة. لقد أكدت التجربة – كما يقول المثل – أن الجار أولى بالمودة، وأن الرهان على البعيد – حين يغيب القربى – لا ينتج إلا المزيد من العزلة والانكشاف.
وفي حال تفاقمت الأوضاع أكثر، وظهرت سيناريوهات انفصال جديدة في الأفق، فإن الحركات التي قاتلت يوماً من أجل قضية دارفور، قد تجد نفسها وقد أصبحت مجرد ضيوف في أرضٍ كانت تدعي تمثيلها. فالذين اختاروا المركز، وتركوا الهامش، ظنًا منهم أن البقاء في الحكم هو المكسب الأهم، خسروا الهامش والمركز معاً، ولم يبقَ لهم غير ركام الشعارات، وتاريخ من التنازلات، وصمت طويل يسكن ما تبقى من الخرائط المحروقة.
هكذا قُتلت دارفور مرتين: مرة برصاص المركز، ومرة بخيانة الوكلاء. وسقطت الأقنعة، تمامًا كما يسقط ضوء الشمس على وجهٍ كان يظن أن الظل سيدوم إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!