رأي

خطاب الكراهية الطريق لانهيار المجتمعات؛ حين غابت زينب (٦-٦)

د. فاطمة الزين الغالي

الحيّ الذي نهض واقفًا

مرّت أسابيع على حادثة زينب، لكن حيّ القلعة لم يعد كما كان… بل صار أفضل. ما بدأ بنداء نجدة لطفلة مختفية، انتهى بولادة وعيٍ جماعي يُدرك خطر الكراهية، ويؤمن بقوة التعايش. اجتمع شباب الحيّ على فكرة واحدة: “أن نروي تجربتنا لغيرنا، قبل أن يمروا بما مررنا به.” انطلقت من الحيّ قوافل حوار إلى الأحياء المجاورة، ينظمون فيها ورشًا مصغرة عنوانها: “الاختلاف لا يعني الخطر.”

جلس في تلك الحوارات أبناء الجهات المختلفة، الأغنياء والفقراء، النساء والشباب، يحكون عن الأيام التي صدّقوا فيها الأكاذيب، ويضحكون أحيانًا بمرارة على الخوف الذي فرّقهم.

المساجد والكنائس شاركت بدورها. في الجمعة الأولى بعد المصالحة، وقف إمام المسجد وقال:

– “التقوى ليست في أن تكره الآخر باسم الدين، بل في أن تحفظ له حقه في الحياة.”

وفي الأحد الذي يليه، قرأ القس من الإنجيل:

– “أحبوا أعداءكم… فكم بالحري أحبوا جيرانكم!”

عادت المدارس تنبض بالحياة، وعاد المعلمون المغيّبون، وشارك الآباء في حملة تنظيف شاملة للحيّ، أطلقوا عليها اسم: “نغسل الشوارع… ونغسل القلوب.”

زينب، الطفلة التي أيقظت ضمير الحي، أصبحت رمزًا للمحبة. نظّموا معرضًا لرسوماتها بعنوان:

“عيون الأطفال لا تعرف الكراهية”

حضره إعلاميون، وجمعيات، وأطفال من أحياء بعيدة. علّق أحد الزوار قائلاً:

– “أنتم لم تنقذوا زينب فقط… أنقذتم أنفسكم، وقدمتم نموذجًا للبلد بأسره.”

أصبح “ود السوق”، الذي كان يوزّع منشورات الكراهية، من أنشط المساهمين في ورش توثيق القصص. كان يقول دائمًا:

– “أنا لست نبيًا… لكنني تعلمت أن من يبني جدارًا ضد أخيه، يحبس نفسه قبله.”

حتى العمدة، الذي كان يحرّض في الخفاء، وقف في مناسبة عامة، وقال:

– “أنا كنت جزءًا من الأزمة… واليوم أريد أن أكون جزءًا من الحل. اغفروا لي، ولنبدأ من جديد.”

لم تكن الأمور مثالية. لا تزال هناك جراح، وهناك من يرفضون التسامح. لكن الحيّ، هذا المكان الصغير على هامش مدينة كبيرة، أصبح علامة على أن الناس قادرون على الانتصار على خطاب الكراهية إذا آمنوا بأن الآخر ليس تهديدًا… بل فرصة للغنى الإنساني.

وفي نهاية أحد الاجتماعات، وقفت زينب، صغيرة كما هي، وقالت:

– “أريد أن أرسم صورة أخيرة، لكل من جاء إلى هنا اليوم…”

ثم رفعت الورقة، وكانت تحمل صورة أطفال من ألوان وأديان مختلفة، يرفعون لافتة كتب عليها:

“نحن أبناء حيّ القلعة… لا أحد غريب بيننا.”

خاتمة السلسلة:

سكان حيّ القلعة لم يهزموا الكراهية بالسلاح، ولا بالقانون وحده… بل بالكلمة، بالصدق، وبأن جعلوا من الألم درسًا، لا خندقًا.

هكذا تبدأ المصالحة الحقيقية: عندما نرى الآخر إنسانًا… قبل أن نراه مختلفًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!